الخميس، 13 أكتوبر 2011

أيام وذكريات عبد الأمير الحصيري وجواد سليم والقصيده



أيام وذكريات عبد الأمير الحصيري وجواد سليم والقصيدة
روح تواقة من زمن غض

مؤيد داود البصام
في العقد الستيني من القرن الماضي، اندلعت حركة ثورية في مختلف إنحاء العالم، صاحبت التطورات الهائلة في العلوم المعرفية والتكنولوجيا وتقنيات الاتصالات والمواصلات، وقد شكل جزؤها الأكبر الطلبة وفئة المثقفين، وكان الفضاء الثقافي العراقي، هو واحد من هذه الفضاءات التي تحرك بفورة ثقافية جاءت مخاض من كبت الحريات، وفرض الرأي الواحد، ولو بإشكال مختلفة فتارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار، ففي هذه الانتفاضة التقت الاتجاهات السياسية والمعرفية علي رأي واحد، وهو لابد من التغيير، وإيجاد البديل الحضاري للأرتقاء بالانسان والوطن، وفي وسط هذا الاهتمام. كانت تلتئم حركات فنية وأدبية وسياسية لتنتج عبر أفكار تجريبية إبداعات عظيمة، ما زالت ثمارها تؤطر المشهد الثقافي العراقي حتي ألان . وكنا مجموعة من ضمن مجموعات الوسط الثقافي العراقي آنذاك، يختلط فيها كل الاتجاهات الفكرية والسياسية، يغلب عليها الطابع اليساري، المحكوم بالرؤية الماركسية لتحليل الواقع، وقد دأبت هذه المجموعات علي التواجد مستوطنة مقاهي باب المعظم ما بعد ساحة الميدان. مقهي عارف أغا والزهاوي وحسن عجمي والبرلمان، بعد أن اغلقت مقهي البلدية في ساحة الميدان التي كانت تجمع الجميع علي اختلاف مشاربهم، يزحف لهن منذ الصباح الباكر قسم من الادباء والفنانين أمثال الشاعر عبد الأمير الحصيري، والبقية تأتي تباعاً من الساعة الثانية عشر ظهراً حتي الرابعة والخامسة ما بعد العصر. لتبدأ مسيرة ثانية من جديد إلي شارع أبي نؤاس علي ضفة دجلة، وفي الساعات المتاخرة تنتهي ليلتهم النؤاسية، وبعد هزيمة حزيران عام 1967، اهتزت المشاعر، وأحدثت قناعات وآراء من ابعد نقطة للأمل إلي أقصي نقطة في الخيبة والسوداوية، كانت القوي السياسية قد خرجت من تجربة حركة 14 رمضان الدموية، لتبدأ مرحلة حكم الرئيس عبد الرحمن عارف الذي جاء بروح التسامح والانفتاح، مما جعل الكثير من القوي السياسية مراجعة وتقييم مرحلة الاقتتال التي جاءت بعد حركة 14 تموز 1958، وهو الأمر الذي انعكس علي الادباء والفنانين والمثقفين بشكل عام ليبداوا مرحلة جديدة في العلاقات والانفتاح علي افكار التجديد والحداثة، كنا وقتها نحاول لم شتاتنا، لإيجاد واقع يحقق لنا أفكارنا وآمالنا وطوباويتنا، وتثبيت هذه الأفكار علي ارض الواقع، وقد اجتهد كل بطريقته وحسب رؤاه خصوصاً وان هذه الفترة جمعت اهتزازات كبيرة بين المثقفين والأحزاب السياسية علي الساحة والأنظمة الحاكمة، وقد أخذت كتابات جهينة التي كان يحررها الصديق الكاتب جليل عطيه تشحن الشارع، وفي شارع الرشيد بين شارع المتنبي وساحة الرصافي الان كانت هناك مقهي يترك صاحب المقهي الجرائد ليقراها رواد المقهي مجانا، ووقتها قامت الدنيا من قبل اصحاب الجرائد علي صاحب المقهي، وكان اسم المقهي النصر، علي أسم جريدة النصر التي كانت حاملة شعلة التغيير والثورية، واكثر محرريها من اليسار امثال مؤيد الراوي وآخرون، وهي تكتب المقالات النارية، وفي وقتها قمنا بتأسيس مجمع ثقافي لكل الفنون والآداب سمي (مؤسسة البصام للثقافة والسينما والمسرح ) أصدرنا من خلاله مجلة باسم (الفنون المعاصرة)، كنت رئيس المؤسسة ورئيس تحرير المجلة، وقدمنا عبر تلفزيون بغداد عدة تمثيليات عن القضية الفلسطينية باسم (فرقة مسرح المجددين) التابعة للمؤسسة، مثل فيها المبدعين فاضل خليل ولطيف ياسين نزار السامرائي فاضل السوداني والمرحومين كاظم ألخالدي وعبد الله ألجواهري وآخرون. ومن أفكارنا التي حاولنا زرعها وثبتناه في منهاج المؤسسة، إن نعطي للمبدع العراقي دوره ومكانته وتعزيزالصلة بينه وبين المتلقي والجماهير، فقمنا بأول خطوة وهي إقامة احتفال بذكري رحيل جواد سليم، فنان الشعب لأجل إن نعرف بسطاء الناس بصاحب النصب الخالد في ساحة التحرير في الباب الشرقي، وطلبنا من تلاميذ وأصدقاء جواد المساهمة في هذه الذكري، فلم يلب إلا العدد القليل من الفنانين متذرعين بشتي الحجج، ومنها من هو جواد حتي نقيم له مثل هذا الاحتفال، هو فنان مثل الآخرين، وقسم قال هذا شيوعي مثلكم فاحتفلوا به انتم، وكثير من الذين وقفوا يكتبون ويصرخون بعد ذلك متفننين بفن جواد وعلاقاتهم به هم من وقف ضدنا وسخر منا، وقالوا ما لنا وما له، ولكن كل ما قوبلنا به لم يفت في عضدنا .وقمنا بالتحضير لإقامة الاحتفال في قاعة الشعب في باب المعظم، وواجهتنا مشكلة إن قاعة الشعب إيجارها في اليوم الواحد ثلاثون ديناراً وهو مبلغ كبير في عقد الستينيات من القرن الماضي خصوصا ونحن ملكيتنا ثقافتنا وكتبنا التي لم تطبع ورسومنا التي لم تعرض ومسرحياتنا التي ترتقي خشبة المسرح، وذهبت وقتها إلي الدكتور مالك دوهان الحسن وزير الثقافة وقتها، وشرحت له الأمر، وللحقيقة كان رجل متفاعلاً وحاول قدر استطاعته وهو في هذا المركز تسهيل وحل مشكلات الأدباء والفنانين، فاتصل بأمين العاصمة المرحوم مدحت سري وطلب منه إن يساعدنا، وذهبت إلي أمين العاصمة وحاول تسهيل الأمر، بان جعل المبلغ خمسة دنانير فقط .أقمنا الاحتفال وحضره بدلا عن وزير الثقافة الذي كان خارج بغداد مدير عام الإذاعة والتلفزيون (مثني الطبقجلي) آنذاك وامتلأت القاعة بمحبي جواد من الأدباء أكثر من الفنانين والقي المرحوم عبد الأمير الحصيري قصيدته الرائعة، وعلي الرغم من طولها كان الجمهور يطلب منه إعادة الأبيات .الآن بعد ستة وثلاثين سنة، أقيم احتفال للفنان جواد سليم من قبل وزارة الثقافة، بعد احتلال العراق، وقد تساءلت مع نفسي، لماذا لم نقم بأي احتفال له خلال تلك السنين، هل كانت السلطة السابقة ستمنعنا فعلاً ؟ أو تحول دون قيام مثل هذا الاحتفال، لجواد أو لإسماعيل أو لكاظم حيدر وغيرهم، أم إننا كنا نلهث وراء ذواتنا، ونبني أمجادا لأنفسنا، فنسينا روادنا وفنانينا وأدباءنا ومبدعينا ؟ أم شغلنا الهم السياسي في الداخل وفي المهجر عن هذه الأمور، أم ماذا ؟

ملحمة تقابل ملحمة
إن قصيدة عبد الأمير الحصيري ملحمة (يا باسل الحزن) مقترنة بملحمة جواد سليم وعظمة إعماله، فهي ليست قصيدة عادية، ولم تأت عادية لأنها كتبت عن شيء غير عادي، رافقت عبد الأمير منذ لحظة بدأ أول حرف خطه (لباسل الحزن ) حتي آخر حرف فيها، وكان لابد من اتخاذ إجراءات لتغيير بوهيمية عبد الأمير، فعبد الأمير لا يفارق الخمر ولا الخمر يفارقه، وعندما يشرب يخرج بعبع من داخله لا يهمه كبيرا أو صغيراً فما في عقله وقلبه علي لسانه، ولا يأبه لخطر وتتملكه شجاعة نادرة لا يملكها أشجع الشجعان، ولان الاحتفال سيحضره الوزير وشخصيات من غير الوسط الفني والأدبي، لهذا منعته من شرب الخمر قبل الاحتفال بثلاثة أيام، ومن روعة عبد الامير أنه كان يشعر بان ليس هناك من يدانيه في قامة الشعر، لهذا تراه متمردا مشاكسا، ولكنه يكون كالحمل الوديع عندما يعرف ان الشخص الذي امامه صديقه ويحب له الخير، فلم يعترض علي كل أجراءاتنا، أرسلته مع الفنان فاضل خليل والمرحومين كاظم ألخالدي وعبد الله حسن إلي حمام عدنان في شارع الرشيد، واشترينا له بدله من محلات الملابس في سوق الهرج عند ساحة الميدان، بسبعمائة وخمسين فلسا ً، وكان مقر المؤسسة علي سطح مقهي عارف أغا، وأجلسنا عبد الأمير علي كرسي وإمامه الطاولة، ومنعنا أي شخص من الحديث معه، فقد لازمه الفنان فاضل خليل ليسكته ويسكت الآخرين حتي يكمل القصيدة. وفي باب المقهي كان بائع مشويات (المعلاك) يحمل صينية بين وقت وأخر إلي عبد الأمير، وجلس عبد الأمير من الصباح يكتب في القصيدة وانتهي منها عصرا ليقراها قبل إن ينقلها من المسودة إلي شكلها النهائي، ونحن بين مصدق ومكذب في نشوة نصفق ونرقص طربا لما إجادته قريحة هذا العبقري .

عبد الامير الطفل الكبير
عبد الأمير الحصيري، هذا الإنسان المغبون المنسي ، الذي عرفته وصاحبته، خلال ستينيات القرن الماضي، وجمعتنا صداقة، تخللتها فترات جفوت وخصام لتصرفات عبد الامير التي لا يحكمها ضابط، فهو خليط من الامزجة المتعددة والمجتمعة في شخص واحد، وهذا هو سر عبقريته، قلة من كان يدرك جوهره، فهو ذلك الطفل في هيئة رجل، قلب شفاف صافي، وعقل راجح، يملك من المعرفة بقدر معرفته مسالك ودروب الشعر، لقد شرب الشعر والشعر شربه، حتي أضحي جزء منه والشعر جزء من عبد الأمير، وكان فلته من فلتات الدهر، فقد حفظ شعر الاولين منذ عصر ما قبل الاسلام والعصور التي تلته، وقرأ كتب التراث والتاريخ العربي والاسلامي والعراقي، وهذا ما تجده من شواهد في شعره، فلم يحتمل المجتمع مثل هذه الفلتات، لغلبة التخلف علي التحضر، لهذا لم يكن المجتمع مستعدا لتقبل مثل هؤلاء الأشخاص، وقد أدرك عبد الأمير هذه الحقيقة لهذا انغمر في شرب الخمر، كما حدث لآخرين قبله، وقد تساءلت كثيرا في السنين الماضية، هل من الممكن إن يكون هذا الغبن لهذه الأسماء المهمة، هو حداثة رحيلها من بيننا، وقد تظهر بعد فترة زمنية، ولكن الزمن يمضي ولا أجد من بينهم من يهتم كثيراً بتكريم هؤلاء أو يذكر هؤلاء المبدعين، الذين ضحوا بكل شيء من اجل الثقافة، وقسم منهم اختلط في تفانيه حب الوطن وقضاياه الوطنية مع حبه للآداب والفن، فلاقي الكثير من الغبن علي يد السلطات أو في الحياة الاجتماعية أمثال سليمان غزاله وأنور شاوؤل، محمد توفيق وردي، مصطفي نريمان، مصطفي جمال الدين والقائمة تطول، وهذا ما يجعلني في بعض الأحيان أفكر، إن الأنانية والتخلف وراء المعضلة في عدم الوعي بأهمية منجز هؤلاء العظام ، وبعض الأحيان أردها إلي إن مجتمعنا يخلو من الارستقراطي والرأسمالي المثقف، والذي لديه استعداد للتضحية بجزء من ماله لأجل حبه للفن والآداب، كما حدث ويحدث في الغرب ولكن يردني في هذه المسألة، إن كثيراً من الأصدقاء المبدعين، وصلوا إلي مناصب رفيعة في الدولة العراقية، ولكنهم التفتوا إلي أنفسهم وعائلاتهم وقبائلهم وأحزابهم ولم يلتفتوا إلي الآخرين، وبالتالي قد تكون الأفكار السوداوية هي الصحيحة علي هذا الأساس (الأنانية، والأنانية المفرطة).
وهذا يذكرني بحادثة تكشف إن النفوس الطيبة،حال ما يسعها الحال، تعبر عن جوهرها،فقد عدت في زيارة لبغداد من الأردن، عندما كنت مقاتلا في صفوف حركة المقاومة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، استقبلني عبد الأمير بفرح وجرني إلي مطعم شريف وحداد في رأس جسر الأحرار من جهة شارع الرشيد، وقلت له : عبد الأمير ما عدت اشرب، إنا ألان قد هداني الله واصلي وأقوم بكل الفروض، فالتفت إلي عامل المطعم، وقال له : هات نفر كباب وقوزي علي تمن ونفر كص علي تمن، فصرخت به، عبد الأمير نحن اثنان وليس عشرة،فقال بحماس : لا تهتم لدي نقود، واقبض راتب (لعد اشلون أوفيك مال السنين الماضية ) فقلت له ضاحكاً : تموتني بالأكل وتخلص مني .. هذه الحادثة، توضح مدي طيبة وكرم عبد الأمير، وشفافية روحه وبساطة خلقه، فلم ينسي الايام التي كنت اصرف فيها عليه، أو عندما حاولت ان اجعله يخفف من الشرب فاسكنته معي في السرداب الذي كنت قد أستاجرته في الحيرخانة، ولكنني في يوم ما عدت عن طريق الفروع من شارع الرشيد قرب مقهي حسن عجمي الي الغرفة، فقابلت عبد الامير وعبد الله حسن وهما يتأبطان مجموعة من الكتب وتفاجأ وعرفت أن هذه كتبي، وسألتهما الي اين بكتبي ؟، فتلعثما وقالا : نريد ان نكتب بحث وهذه المصادر، فقلت لهما اعيدا الكتب وسوف اعطيكم المال لتشربا، وبعدها قلت له عبد الامير لا فائدة أبحث لك عن مكان، وانأ متأكد انه لو تسلم منصباً أو حصل علي مال كثير لما تورع في تذكر الحاضرين والغائبين، كان لقاء شريف وحداد في سبعينيات القرن الماضي هو أخر لقاء بيننا، إذ سافرت ولما عدت، عرفت انه قد مات، ولم يكن في وداعه في الطب العدلي، إلا ثمانية أصدقاء، وفي وداعه عند القبر في النجف أيضا بضعة أصدقاء . ومنهم سعدي يوسف وعبد المنعم حمندي ورزاق حسن ورياض قاسم وجمعه اللامي ونزار عباس ومنعم حسن وحسن العلوي وخليل الاسدي وياسين النصير وصباح التميمي وجليل حيدر ونايف السامرائي ويوسف نمر ذياب وكان النحات منقذ شريده قد صب قناع لوجهه وقرأ الشاعر الرائع سعدي يوسف قصيدة إمام قبره. إما جواد سليم ذلك الفنان الرائع عاش بنفس البساطة التي عاشها عبد الأمير مع الفارق، إن جواد سليم ابن مدينة بغداد وابن عوائلها الارستقراطية، وعلي الرغم من تمرده في رفض التقوقع داخل الحياة البرجوازية، فكان يركب الدراجة ويلبس البلوز والبنطلون ويحتذي النعال ويجلس مع البسطاء في مقاهي السبع إبكار والكريعات علي ضفاف نهر دجلة، وكان من بساطته إن تعلق به بسطاء الناس وأحبوه، وأحبه طلبته بعيداً عن عيون الحسد والكبرياء والغطرسة الفارغة، كان جواد وعبد الأمير من طين واحد ولكن بلونين ومكانين مختلفين، لكن يجمعهم حبهم للوطن ولامتهم وشعبهم وثقافتهم أكثر من حبهم لأنفسهم وأدرآن الحسد والكبرياء الفارغة، فأنتجوا إعمالا عظيمة كلُ في نسقه.
ما بين شعر عبد الامير الحصيري ونحت جواد سليم..
أن من يقرأ شعر عبد الامير الحصيري وينظر الي لوحات ومنحوتات جواد سليم، سيدرك مباشرة أن هناك قضية مشتركة تجمع هذان الفنانان الرائعان، كما جمعت الكثير من الادباء والفنانين العراقيين في تلك الفترة، في أندماجهم مع نضال أبناء العراق لبناء وطن متطور يفتخر به، لاعتزازهم ببلدهم العريق سليل حضارات ضاربة في القدم، الذي قدم الكثير للبشرية، من هذا الاحساس بعظمة الموروث العراقي كان الهاجس الذي يتمحور حوله اشتغالات الادباء والفنانين العراقيين والمثقفين بشكل عام وجواد سليم وعبد الأمير الحصيري بشكل خاص في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولم تكن قصيدة يا (باسل الحزن )، محض قصيدة شعرية قيلت في مناسبة، أنها تمتلك الروح التي تجدها شاخصة في نصب الحرية وفي أغلب أعمال جواد سليم، أن في أعمالهما قضية مهمة ما بين الذاتي والجمعي، فالشاعر عبد الامير الحصيري ينطلق من الذاتي الي الموضوعي، من الشخصي الي الجمعي، وهو ما نجده مطبوع في أعمال جواد سليم، لهذا نجد شعر الحصيري مشحون بالاسي والتوجع من اجل الانسان والوطن، وعلي ما فات وما يطمح أن يصير، ويتعالق مع تمرده الجواني ضد الواقع من خلال القصيدة، بايجاد الشخوص والموضوعات والرموز التاريخية والوطنية التي يتمثل فيها هذا الحراك الداخلي، والموضوعات التي يتحدث عنها، وسنجد ما يوازيها في بحث الفنان جواد سليم في أعماله، وبالذات نصب الحرية...
يا سليل الشمس،يا موطني المرتدي ثوب الربيع القشب
يا سلسال " فرات " غدق لسوي ثغر العدي لم ينضب
وابن ريا " دجلة " منسكب يا لسجايا الزمان الحدب
وأبن مجد أرج صاغت له " بابل " في الكوي أسمي منصب (1)
1- عبد الامير الحصيري، ديوان مذكرات عروة بن الورد، دار الحرية للطباعة، بغداد. 1973،ص34. والرموز التي استخدمها عبد الامير الحصيري في شعره بشكل وآخر وبالعكس، في تمجيد الانسان العراقي والحضارة العراقية، بتاريخها السومري والبابلي والاشوري، تتوافق مع البحث الذي عمل عليه جواد سليم، وهنا تكمن القضية التي تتوافق في البناء الفني بين المبدعين العراقيين بشكل عام وبين جواد وعبد الامير، أن الشروط الابداعية التي كان يعمل بها الفنان جواد سليم جعلته بتلاصق مع الانسان في حياته، وكان نضاله من اجل الانسان يتلخص في نقل حالة هذا الانسان وواقعه الذي كان يرفضه ويناضل من أجل تغييره نحو الافضل عبر أداته الفن، وفي هذا يقول عباس الصراف، } فالرجل في اغلب منحوتاته، رمز الألم والعذاب والمأساة، فهو مملوك ذليل يسير في ركب،(موكب ملك آشوري1942)، وهو شبح محنط في،(البناء1945)، وهو حيوان ملاصق للثور يحرث الأرض في،(الأنسان والأرض 1950)، وهو آلة عضلية ترفع الاثقال في(العامل 1953)، وهو البليد القانع بزمالة كلب في الريف(1954)،{ (عباس الصراف، جواد سليم، وزارة الاعلام، 1972. بغداد،ص88.) هذه الايحاءات الرمزية التي يذكرها عباس الصراف عن أعمال جواد سليم في فكره ونقلها كموضوعات في اعماله، وكما يقول في موضع آخر في كتابه جواد سليم، (أن موضوعات جواد في الرسم والنحت مدارها الدراما ألأنسانية)، (ص91)، فنجد هذا المنحي الانساني للنضال من اجل الأنسان ومتابعة الماساة التي يعيشها، في جملة اعماله التي صاغها، وهو الصدي الذي يتردد في شعر عبد الامير:
" وأنشُر قلبي رايه
ترتلُ أحلام شعبي
وأعبرُ ليل السجون بجسر السلاسل
أعبر نار رؤي الفاتحين
أنا " عروة الورد " شيخ صعاليك أزمنة الأرض . رمز بطولة هذا الزمان المكلل بالنار .،
رمز الجبابرة الكادحين !! (عبد الامير الحصيري. ديوان مذكرات عروة بن الورد . دار الحرية للطباعة . بغداد 1973.ص98.)
أن أتخاذ الرموز وبناء العلاقة بين الماضي والحاضر، مثلت أغلب اعمال الفنانين والادباء في تلك الفترة، فقد حدثت هذه الانعطافة التاريخية، في بلورة المفاهيم والمنطلقات الفكرية والابداعية، علي النحو الذي يجعل من الماضي والتراث منطلق للحداثة، لا الركون والتوقف علي ما مضي، ومن يقرأ البيان الأول لجماعة الفن الحديث يدرك الفهم الحداثوي للتواصل، (أنهم لا يغفلون عن أرتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي علي الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية مميزة ).
وكذا نجد هذه الروح التواقة لرؤية الوطن والانسان في اعلي مراتبها، وهما وأن يظهرا البؤس والتغني تارة والتوجع تارة أخري، في مناجاة الوطن والانسان، واستحضار التاريخ للتذكر، لانهما كانا يتوقان الي تغيير هذه الصورة الماساوية، فكما نجد هذه الاستحضارات تتلبس أعمال جواد سليم النحتية او الرسوم التي رسمها، ستكون قصائد عبد الامير محمولات لهذه الافكار:
جئت من الآتي..عبرت السنين بيارقاً ينسجهن الحنين
أن تغسل الشمس بأفيائها مياه ينبوع الظلام الحزين
سهرانةُ الأعُين تطفو به كواكباً يرقدً فيها الأنين
يعبرُ شوقَ عالم ٍ لم يَزل في رحم الحرف المشظي..جنين المصدر السابق، ص96. (عبد الامير الحُصَيري. ديوان بيارق الآتين، مطابع دار الجاحظ، بغداد، 1966. ص8)

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الفترة التي عاش فيها جواد سليم وعبد الامير الحصيري لها هذا التاثير في هذا الحراك الفكري، أم هي خاصة بهما ؟ والحقيقة أن النضال من أجل الانسان والعراق الحر المتطور، كان يكتسب البعد الجماعي، ليس علي صعيد الأدباء والفنانين وانما لدي قطاعات كبيرة من أبناء الشعب العراقي، والروح النضالية التي كانت تطغي علي مجمل الشارع العراقي، وكان لأبناء الطبقة الوسطي او البرجوازية الصغيرة، الفعل الديناميكي في تحريك الروح الوطنية، عبر البث الثقافي الذي كانت تمارسه
في مختلف الانشطة الفكرية والفنية. وهي الروح التي صاغت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية في تلك الفترة.
عندما نقرأ قصيدة (ياسل الحزن )، يمتلكنا هذا الاحساس بالفخامة، التي توصلها الرؤية البصرية للتماثيل والنصب الآشورية من فخامة وسمو وابراز للقوة أذا كان في الحجوم بشكل عام، أو في العضلات والقوة الجسدية للمجسدات، وما يظهره (نصب الحرية ) هو ضخامة الكتلة وحركتها الرشيقة، فعندما نبدأ في صدر البيت لقصيدة جواد النحتية، نجده قد جمع الرؤية البصرية بالرؤيا الذهنية، ونحت ليستل من مجامع الحرقة التي تشتعل في قلب كل ثائر هذا التوثب للحديث عن القهر والظلم والتخلف وما آلت له حال الامة والشعب، ليوقفنا عبد الامير علي نفس الرؤيا التي تعتمل في داخله وتتطابق ما ذهب اليه جواد، فشعره صور متلاحقة، وكذا عمل جواد صور مرئية:
ما بالنا نكرم البؤس بصائرنا عن غفلة فنقاسي فقد ما نهبُ
ونستدر جفاف النجم تزكية لمقصد من جرار الصبح ينسكبُ
إذا اتخذنا قبور الريح أوسمة أولد الشمس إن لم يفطن الذهبُ
ولا ستعرنا حديث الرمل تسلية في وحشة الصبر ما دام الأسي يثبُ
مليون عام توارت في تمردها والكون في واحة الاسرار يضطربُ
فلو تعالت جدار لاستراح علي اقدامه الترب، والتآذت به الشهبُ
اللغة التي يتحدث بها تحمل نفس الفخامة التي تتسم بها الكتل النحتية في (نصب الحرية)، اذ تجد خلف السرد الذي يتسلسل في الملحمة هناك فكرة ترسخت وتوضحت في المقطع الاول للنصب، وهو ما نجده في رؤية عبد الامير الحصيري في الابيات التي يصف فيها جواد:
جواد من صفوة فيها ابيح لها مما تشاء من الإلهام تنتهبُ
سبع أقلت مراسيها علي ندم فكل مرفأ علي أثارها تعبُ
تسري ببحر عيون تستفيض علي مياهه المهج الحزني فيصطخبُ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق