الخميس، 13 أكتوبر 2011

وداد الأورفـلي ... نخلة عراقية تربق عسل الألوان ... قباب الجوامع والكنائس تهتز جذلة على وجه دجلة



وداد الأورفه لي.. نخلة عراقية تريق عسل الألوان
قباب الجوامع والكنائس تهتز جذلة علي وجه دجلة

مؤيد داود البصام:
تجرنا لوحات الفنانة وداد الأورفه لي إلي الغرقُ في بحر الشوق والهيام، إلي الأمل الذي يحمل مُني كل معشوق للقاء المحبوب، اللحظة الابدية التي تتكثف لتحيل الذرات إلي كتل مهولة من الهيام والشوق، يحسبها في الزمن الدهر كله، يتوه ويدور وينسل بحثا في مدن واقواس وبساتين وانهار، وقبب وشناشيل وطيور من الحلم والفنتازيا من قصص الف ليلة وليلة، لعالم من الغرابة والمتعة والدهشة، تدخلك أبواب وأنت تتحسب لخطواتك، عالم السحر والافتتنان بالالوان والرقة والموسيقي، مدن تعرفها ولم ترها، تحس انك رأيتها، وتسأل نفسك، لا... قرأت عنها، شئ من هذا القبيل، توقعك في الحيرة، وأنت وسط اللذة والنشوة، لامركزية الرؤية البصرية، التي تضيع بين الألوان والهندسة لمدن ومناظر متداخلة علي امتداد اللوحة، وتعود للسؤال الذي يظل بلا اجابة، لانه متعدد، هل هذه مدن وقصور الامويين ام العباسيين، ام انني اشاهد الاندلس وغرناطة، وابحر في زمن غير الزمن الذي انا فيه، لكنني أري بغداد ودمشق والحواضر الأندلسية في اسبانيا وقصر الحمراء والكنائس الغوطية والجوامع في اسطنبول، أم أنها بغداد هارون الرشيد، وهو ما يجعلك تسرح مع موسيقي تنبثق من الالوان كانها شلال هادئ ينساب من علو دون ان يحدث اصوات الطبول والصناجات، صوت الفلو وانسيابية الالحان في الناي، يكتب جبرا ابراهيم جبرا في دليل معرضها (تشاهد رسوم وداد الاورفلي لاول مرة فتفاجأ: كأنك فتحت بابا مغلقا باحكام، وأذا أنت وسط أضواء وموسيقي في قاعة فسيحة، ليس فيها أحد، ولكنك تحس بأنك محاط بهمسات أناس محتشدين وللحال، تنقلب بك الأحاسيس، وانت لاتستطيع التأكد من سر دهشتك سوي أنك تتلذذ رؤية، وتتلذذ بما يوحي همسا اليك، والرؤية تتيه بك مكانا وزمانا، ماضيا وحاضرا وكذلك الهمس.).

رواد الفن التشكيلي
لوحات الفنانة وداد الأورفلي، التي عاصرت رواد الفن التشكيلي العراقي، وفترة الحماس لخلق معمار للفن العراقي خاص يستمد اصوله، من فهم تاريخه وتراثه العربي والاسلامي وينفتح علي المدارس العالمية ليستقي منها التقنية، ولا يستنسخ التجربة، في مثل هذه الاجواء الحالمة بتغيير الواقع، وبناء واقعا حالما جديدا، غمست الاورفلي أناملها لتبدع، مدنها وقصورها وانهارها وجوامعها وكنائسها، بعد أن تشبعت في الحلم كرؤية ورؤيا، فهي لا تخفي تاثرها، حينما تقول (كنت في أسبانيا وأمام قصر الحمراء، شاهدت زخرفة قصر الحمراء. واستوحيت منه كل ما هو منمنم من الفن الاسلامي وزخرفة الكنائس والسجاد، وحتي الملابس..) ، تمثلت هذا الوجود الحضاري الذي حمله تراث عقود وقرون من الفن العربي والاسلامي، الذي امتص فنون وحضارة البلدان التي وصلها، وتشبعت بروحية الشرق كونه عالم التخيال، وهو الفرق الذي أدركته بين رؤية الفنان الغربي والفنان الشرقي للوحته، المناهج والاساليب الفنية الغربية، تمثل بنية الانسان الغربي، فالتكعيبية وغيرها من مناهج واساليب الفن الحديث، هي الافرازات الفكرية للتطورات العلمية والاقتصادية بعد الثورة الصناعية، وجاءت منسجمة مع البناء المادي للانسان الغربي، لكن الشرقي تبقي لديه رؤيته التي يتمتع بها بخلاف الغربي، فالمشاهد الشرقي تبهره لوحة لمنظر طبيعي او للتشخيص في أعمال فناني عصر النهضة، أو عمل من اعمال روبنز او ديفيد او رامبرانت أو اعمال الفنانين الصينيين واليابانيين الطبيعية، أكثر من اي لوحة في الفنون التكعيبية والتجريدية، علي الرغم مما تحمله اللوحة من قدرات فنية وتقنية ورؤيا في الاداء، وهو ما ادركته الشاعرة والموسيقية وداد الارفه لي بحسها الفني العالي، لتوظب كل قدراتها الفنية واحاسيسها المرهفة، من خلال دراستها للموسيقي ووصولها لمرحلة التاليف الموسيقي، وكتابة الشعر، هذه البنائية لعدد من الفنون الحلمية مجتمعة، جعلتها تعمل نحو ايجاد نمط ابداعي للذاكرة لها مرجعيتها، أدخال الرموز التي استعارتها من مشاهداتها وتأملاتها في الفنون الشرقية، عبر الزخارف الاسلامية والتشكيلات الهندسية التي تضمها، أعمال الفنان الاسلامي في شرقه وغربه، لربط هذه الاشكال بشموليتها بالبناء الفني، الذي ياخذ في اعمالها المتاخرة الاشكال الهندسية اساسا لبناء اللوحة الفني المدروس علي ظهر القماش، المنمنمات والزخرفة التي وظفها الفنان الاوربي في اعماله مستفيدا من الحركة البصرية التي تحدثها، ولكن عند الفنانة وداد هذه البنائية التي تشكلت بصياغة الشمولية الرؤوية لفن الزخرفة والمنمنمات، تكثيف في اللون ومساحة أكبر لتركيب الرؤية ضمن فضائها المتسع، وتاكيدها في بناء اللوحة أن تحمل نسمات وروائح بغدادية، وهي المشاعر التي يحسها الواقف أمام لوحتها الحلم، وكأنه يعيش احساس من يصعد قاربا في نهر دجلة أيام هارون الرشيد، او يلج بستانا، انها لحظة الإمساك بالزمن والتغريب في داخله.
مؤثرها الإبداعي والفعل الإبداعي في التشكيل العراقي
لم يقتص الدور الذي لعبته الفنانة وداد الاورفلي، في الحركة التشكيلية العراقية، بخلق الموسيقي والرمز وتاكيد الحلمية في النص، ولكن فيما قدمته علي الصعيد العملي لاستمرارية الحركة في عطاءها عندما اجدبت الحياة بمختلف اشكالها نتيجة الحصار الظالم الذي فرضته القوي الامبريالية علي العراق لمدة احد عشر عاما، فهي المولودة في احدي أعرق مناطق بغداد (البتاويين) لاسرة برجوازية ذات طابع ارستقراطي في حياتها اليومية، اتاح لها الجو العائلي أن تمتلك حريتها الفكرية والعملية في اختيار مستقبلها، وسيكون نفس الخط ينطبق علي حياتها الزوجية، بوجود الرجل الذي تفهم حريتها الشخصية والعملية، وهو الذي أهلها لتقديم عطائها الفني في بنائية الحركة، باقامة اول قاعة للعرض أهلية في العراق، ولاشك أن خط الحرية الذي واكبها من بيت العائلة الي بيت الزوج، الذي كان يحمل النظرة التقدمية لدور المرأة في الحياة ذاتها، أهلها لان تقدم مشروعها في احتضان أعمال الفنانين العراقيين، اذا كان في مدينة بغداد أو في مدينة عمان، بعد ان غادرت علي أثر الاحتلال، وتدمير القاعة التي اسستها في منطقة المنصور في مدينة بغداد، وسرقة الاعمال التي تحتويها. اننا اذ ناخذ اعمال الفنانة وداد، التي تنقلت من واقعية في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ثم تحولها الي الانطباعية، واعمالها التكعيبية والتجريدية، فان الروح التجريبية، هي التي حملتها لان تصل الي استيعاب التقنية الحديثه بفهم لتاريخها وتراثها ولواقعها ، وفهم لروحية متلقيها، فكانت هذه اللوحات التي تحمل روح الشرق وحلمه الخالد، للتمسك بالزمان والمكان، واعادة الذاكرة مشحونة برؤي صوفية، فهي تعيد بناء مدننا، وترسم المدن التي نحلم بها، بحساسية ورهافة تتخللها موسيقي، تنبع من بين الخطوط والالوان، وبهذا صاغت حلما أثر في أعطاء اللوحة عمقا ومجهولية. وهو العمق الذي جعلها قريبة من الاحداث، ومساهم فعال في التعبير، فهي لم تكن بعيدة عن معاناة شعبها في العراق او في العالم العربي، فكانت اعمالها (فلسطينيات) و (معرض النكسة في صور) ومعرض (الكرامة) تعبير عما تعيشه في داخلها، وكما حملت آلام الامة ومعاناتها، حملت آلام شعبها ما بعد الاحتلال فالفت موسيقي واشعار في التغني ببغدادها والعراق، ولعن الاحتلال، وهو الموقف الذي اثر في طبيعة الحركة التشكيلية العراقية، التي ظلت محافظة برموزها علي وطنيتها، ورفضها للاحتلال، ولم تنجر الي مواقع ما اريد للفن العراقي من الانحطاط، من لحظة البدء بتخريبه، حينما منح المحتل عصابات اللصوص مجال تخريب وسرقة التراث الفني العراقي.

الغربة تزرع في قلب الحدث
ما هو نص لوحة الفنانة وداد ؟ أن الاعمال الأخيرة للفنانة، فيها هذا الاستشعار للحنين والشوق للربط بين الماضي والحاضر، وغلبة الطابع الرومانسي الحزين علي الشكل العام للوحة، فيها تاكيد علي الروح العراقية والبغدادية بالذات، زوارق تنساب في نهر دجلة أثناء الغروب، قباب ومساجد وكنائس تصطف علي جبهة النهر لحظة الغروب، أن اعمالها الأخيرة تزداد تعلقاً بالحاضر واستعادة الماضي، موقف الاندماج الحضوري للتعبير عن لحظة تأمل بما يمكن ان نسميه الضياع والغربة، ولكن تبقي هذه الروح الهائمة والغارقة في عراقيتها ، وحبها لمدينتها بغداد، فما زالت لوحتها تحمل البنائية التخطيطية بقوتها ، ودسامة في اللون وكثافته، مع أستمرار أدخال النمنمة والزخرفة، التي خفت بعض الشئ في اعمالها الأخيرة، لا نعرف هل لتاكيد الفكرة التي انبثقت لديها ما بعد الاحتلال، بغلبة التغريب والرومانسية والحلم الضائع ؟، أم كون الزمن قد حد من قدراتها بعد ان خذلتها يدها.
الغ الغربة لململلوحات العالم إن رسوماتهتتوتتاتنهعناتاتويل الخيال، ترجعنا الفسيح؛ حيوية الخيال ببناء أساطيره ومدنه النائية.. لكن هذا المناخ المرتبط بتراث بغداد يضعنا في الزمن الحاضر.. في إعادة بناء ذاكرة متداخلة في الزمن. وكأن الأورفلي تمسك بكثافة اللحظة الأبدية، فلا تغرق في المكان ولا في الزمن.. لأنها، في الأخير، تصنع أسطورتها بتشييد إمبراطوريتها المشحونة بالموسيقي وبعاطفة صوفية - روحية وكأنها تضع (الواقع) في مكانه المبتكر في الفن.. مثلما تمنح الفن بعداً لا ينفصل عن صلتنا بالجوهر الخفي للمرئيات في الواقع. إنها رسامة تخترع خطابها بحرية ودقة إلي جانب رقة وحساسية مرهفتين. فثمة عشق فريد للأشياء التي تعيد بنائها، عشق يبلغ حد الفناء مبتعدة عن عناصر عالمنا الصاخب، المضطرب، والمحكوم بالاغتراب.. حيث الفن يغدو تعويضاً، ورحلة نجاة.
إن رسوماتها لبساتين بغداد، وتلك الجزر السحرية الغارقة في تهاويل الخيال، ترجعنا إلي العالم الفسيح؛ إلي حيوية الخيال ببناء أساطيره ومدنه النائية.. لكن هذا المناخ المرتبط بتراث بغداد يضعنا في الزمن الحاضر.. في إعادة بناء ذاكرة متداخلة في الزمن. وكأن الأورفلي تمسك بكثافة اللحظة الأبدية، فلا تغرق إن رسوماتها لبساتين بغداد، وتلك الجزر السحرية الغارقة في تهاويل الخياوفي معرض لها أقامته في بغداد ـ عمان عام 2005، بعنوان (مدن الحلم) لنا هذه الوقفة:
ثلاثة مداخل تشترك في بناء نصوص وداد الأورفلي: ما قبل الحلم، وبغداد، وكل الذي يبقي يحمل مرور الأطياف. فمنذ نصف قرن، وهي تنسج وتنغّم وتنقش أحلامها فوق قماشة اللوحة، وجدت انها أسيرة باثات بذور غاباتها الطبيعية، في المدينة التي ولدت فيها، إلي جانب تعلقها بحبيبات الزمن المخبأة في هذه الغابات. فالرسامة لم تتخل عن الامتداد في المكان، بصفته مجموعة الغاز، لتعيد صياغة سلاسل أحلام لا تكف تمتد بخيالها البكر، والحكيم.
ففي نصوص الحكمة، تعيد الفنانة للحياة ما وهبته لها: الجذور وفصول الإنبات، إلي جانب أغصان وبراعم وورود وكائنات تحتفل بهبات ما قبل / ما بعد / الزمن. لقد نشأت الرسامة. مع جيل الريادة في خمسينيات بغداد القرن الماضي، وهي تزاوج بين ماضيها وحاضر يتدفق وعوداً، فأبت إلا أن تزداد تعلقاً به. لا لتتأمله، بل للسكن في أكثر مناطقه عمقاً، ومجهولاً : انه الذي نرادجطكجحخه وقد أخذنا معه، إلي أين...؟ ليس هو المجهول.. بل.. هو كل الذي ستعيد الاحتفاء به: المدن الحالمة في ذاكرتها، ومخيالها الذي علمها كيف تبني هذه المدن. بغداد.. ومدن أخري.. تغدو مظهراً للعمق، ومساحة للامتداد، ومكاناً للتجدد. وفي هذا كله، مكثت الفنانة أكثر وفاءً لهذه الهبات.. فراحت تصوّر موسيقي الفصول، والمرارات العصية لجماليات النذور، تتمتم بها شعرا سبق للكاهنة الأكدية (انخيدونا) ابنة سرجون الاكدي، أن كان لها شرف السبق، كي تستعاد، في رسوماتها، حاضراً معبديا ً للوفاء، وجرحاً راحت الفنانة تشفيه بنصوص الحلم، وبكل الاستحالات التي غدت تدعونا لها إصغاءً يكمن في وعيها المرهف للبصريات، ومعادلاً فنياً توازنت فيه المكونات بسر الصياغة. إن وداد الأورفلي، تكتشف حداثتها، ليس بعيداً عن عمل أقدم الحواس، تلك : وقد وجدت الحلم ذاته قد صار مدينة، وسكناً، ولكن، لا تسكنه الأطياف، بل تحمله، في خلاياها الخفية، نحونا، كي يبقي يتدفق بالمستحيلات.
ل، ترجعنا إلي العالم الفسيح؛ إلي حيوية الخيال ببناء أساطيره ومدنه النائية.. لكن هذا المناخ المرتبط بتراث بغداد يضعنا في الزمن الحاضر.. في إعادة بناء ذاكرة متداخلة في الزمن. وكأن الأورفلي تمسك بكثافة اللحظة الأبدية، فلا تغرق في المكان ولا في الزمن.. لأنها، في الأخير، تصنع أسطورتها بتشييد إمبراطوريتها المشحونة بالموسيقي وبعاطفة صوفية - روحية وكأنها تضع (الواقع) في مكانه المبتكر في الفن.. مثلما تمنح الفن بعداً لا ينفصل عن صلتنا بالجوهر الخفي للمرئيات في الواقع. إنها رسامة تخترع خطابها بحرية ودقة إلي جانب رقة وحساسية مرهفتين. فثمة عشق فريد للأشياء التي تعيد بنائها، عشق يبلغ حد الفناء مبتعدة عن عناصر عالمنا الصاخب، المضطرب، والمحكوم بالاغتراب.. حيث الفن يغدو تعويضاً، ورحلة نجاة. في المكان ولا في الزمن.. لأنها، في الأخير، تصنع أسطورتها بتشييد إمبراطوريتها المشحونة بالموسيقي وبعاطفة صوفية - روحية وكأنها تضع (الواقع) في مكانه المبتكر في الفن.. مثلما تمنح الفن بعداً لا ينفصل عن صلتنا بالجوهر الخفي للمرئيات في الواقع. إنها رسامة تخترع خطابها بحرية ودقة إلي جانب رقة وحساسية مرهفتين. فثمة عشق فريد للأشياء التي تعيد بنائها، عشق يبلغ حد الفناء مبتعدة عن عناصر عالمنا الصاخب، المضطرب، والمحكوم بالاغتراب.. حيث الفن يغدو تعويضاً، ورحلة نجاة.

رسوماتها لبساتين بغداد
إن رسوماتها لبساتين بغداد، وتلك الجزر السحرية الغارقة في تهاويل الخيال، ترجعنا إلي العالم الفسيح؛ إلي حيوية الخيال ببناء أساطيره ومدنه النائية.. لكن هذا المناخ المرتبط بتراث بغداد يضعنا في الزمن الحاضر.. في إعادة بناء ذاكرة متداخلة في الزمن. وكأن الأورفلي تمسك بكثافة اللحظة الأبدية، فلا تغرق في المكان ولا في الزمن.. لأنها، في الأخير، تصنع أسطورتها بتشييد إمبراطوريتها المشحونة بالموسيقي وبعاطفة صوفية - روحية وكأنها تضع (الواقع) في مكانه المبتكر في الفن.. مثلما تمنح الفن بعداً لا ينفصل عن صلتنا بالجوهر الخفي للمرئيات في الواقع. إنها رسامة تخترع خطابها بحرية ودقة إلي جانب رقة وحساسية مرهفتين. فثمة عشق فريد للأشياء التي تعيد بنائها، عشق يبلغ حد الفناء مبتعدة عن عناصر عالمنا الصاخب، المضطرب، والمحكوم بالاغتراب.. حيث الفن يغدو تعويضاً، ورحلة نجاة.
ا لبساتين بغداد، وتلك الجزر السحرية الغارقة في تهاويل الخيال، ترجعنا إلي العالم الفسيح؛ إلي حيوية الخيال ببناء أساطيره ومدنه النائية.. لكن هذا المناخ المرتبط بتراث بغداد يضعنا في الزمن الحاضر.. في إعادة بناء ذاكرة متداخلة في الزمن. وكأن الأورفلي تمسك بكثافة اللحظة الأبدية، فلا تغرق في المكان ولا في الزمن.. لأنها، في الأخير، تصنع أسطورتها بتشييد إمبراطوريتها المشحونة بالموسيقي وبعاطفة صوفية - روحية وكأنها تضع (الواقع) في مكانه المبتكر في الفن.. مثلما تمنح الفن بعداً لا ينفصل عن صلتنا بالجوهر الخفي للمرئيات في الواقع. إنها رسامة تخترع خطابها بحرية ودقة إلي جانب رقة وحساسية مرهفتين. فثمة عشق فريد للأشياء التي تعيد بنائها، عشق يبلغ حد الفناء مبتعدة عن عناصر عالمنا الصاخب، المضطرب، والمحكوم بالاغتراب.. حيث الفن يغدو تعويضاً، ورحلة نجاة.
وفي معرض لها أقامته في بغداد ـ عمان عام 2005، بعنوان (مدن الحلم) لنا هذه الوقفة:
ثلاثة مداخل تشترك في بناء نصوص وداد الأورفلي: ما قبل الحلم، وبغداد، وكل الذي يبقي يحمل مرور الأطياف. فمنذ نصف قرن، وهي تنسج وتنغّم وتنقش أحلامها فوق قماشة اللوحة، وجدت انها أسيرة باثات بذور غاباتها الطبيعية، في المدينة التي ولدت فيها، إلي جانب تعلقها بحبيبات الزمن المخبأة في هذه الغابات. فالرسامة لم تتخل عن الامتداد في المكان، بصفته مجموعة الغاز، لتعيد صياغة سلاسل أحلام لا تكف تمتد بخيالها البكر، والحكيم.
ففي نصوص الحكمة، تعيد الفنانة للحياة ما وهبته لها: الجذور وفصول الإنبات، إلي جانب أغصان وبراعم وورود وكائنات تحتفل بهبات ما قبل / ما بعد / الزمن. لقد نشأت الرسامة. مع جيل الريادة في خمسينيات بغداد القرن الماضي، وهي تزاوج بين ماضيها وحاضر يتدفق وعوداً، فأبت إلا أن تزداد تعلقاً به. لا لتتأمله، بل للسكن في أكثر مناطقه عمقاً، ومجهولاً : انه الذي نراه وقد أخذنا معه، إلي أين...؟ ليس هو المجهول.. بل.. هو كل الذي ستعيد الاحتفاء به: المدن الحالمة في ذاكرتها، ومخيالها الذي علمها كيف تبني هذه المدن. بغداد.. ومدن أخري.. تغدو مظهراً للعمق، ومساحة للامتداد، ومكاناً للتجدد. وفي هذا كله، مكثت الفنانة أكثر وفاءً لهذه الهبات.. فراحت تصوّر موسيقي الفصول، والمرارات العصية لجماليات النذور، تتمتم بها شعرا سبق للكاهنة الأكدية (انخيدونا) ابنة سرجون الاكدي، أن كان لها شرف السبق، كي تستعاد، في رسوماتها، حاضراً معبديا ً للوفاء، وجرحاً راحت الفنانة تشفيه بنصوص الحلم، وبكل الاستحالات التي غدت تدعونا لها إصغاءً يكمن في وعيها المرهف للبصريات، ومعادلاً فنياً توازنت فيه المكونات بسر الصياغة. إن وداد الأورفلي، تكتشف حداثتها، ليس بعيداً عن عمل أقدم الحواس، تلك : وقد وجدت الحلم ذاته قد صار مدينة، وسكناً، ولكن، لا تسكنه الأطياف، بل تحمله، في خلاياها الخفية، نحونا، كي يبقي يتدفق بالمستحيلات.
تلك الجزر السحرية الغارقة في تهاويل الخيال، ترجعنا إلي العالم الفسيح؛ إلي حيوية الخيال ببناء أساطيره ومدنه النائية.. لكن هذا المناخ المرتبط بتراث بغداد يضعنا في الزمن الحاضر.. في إعادة بناء ذاكرة متداخلة في الزمن. وكأن الأورفلي تمسك بكثافة اللحظة الأبدية، فلا تغرق في المكان ولا في الزمن.. لأنها، في الأخير، تصنع أسطورتها بتشييد إمبراطوريتها المشحونة بالموسيقي وبعاطفة صوفية - روحية وكأنها تضع (الواقع) في مكانه المبتكر في الفن.. مثلما تمنح الفن بعداً لا ينفصل عن صلتنا بالجوهر الخفي للمرئيات في الواقع. إنها رسامة تخترع خطابها بحرية ودقة إلي جانب رقة وحساسية مرهفتين. فثمة عشق فريد للأشياء التي تعيد بنائها، عشق يبلغ حد الفناء مبتعدة عن عناصر عالمنا الصاخب، المضطرب، والمحكوم بالاغتراب.. حيث الفن يغدو تعويضاً، ورحلة نجاة.
وفي معرض لها أقامته في بغداد ـ عمان عام 2005، بعنوان (مدن الحلم) لنا هذه الوقفة:
ثلاثة مداخل تشترك في بناء نصوص وداد الأورفلي: ما قبل الحلم، وبغداد، وكل الذي يبقي يحمل مرور الأطياف. فمنذ نصف قرن، وهي تنسج وتنغّم وتنقش أحلامها فوق قماشة اللوحة، وجدت انها أسيرة باثات بذور غاباتها الطبيعية، في المدينة التي ولدت فيها، إلي جانب تعلقها بحبيبات الزمن المخبأة في هذه الغابات. فالرسامة لم تتخل عن الامتداد في المكان، بصفته مجموعة الغاز، لتعيد صياغة سلاسل أحلام لا تكف تمتد بخيالها البكر، والحكيم.
ففي نصوص الحكمة، تعيد الفنانة للحياة ما وهبته لها: الجذور وفصول الإنبات، إلي جانب أغصان وبراعم وورود وكائنات تحتفل بهبات ما قبل / ما بعد / الزمن. لقد نشأت الرسامة. مع جيل الريادة في خمسينيات بغداد القرن الماضي، وهي تزاوج بين ماضيها وحاضر يتدفق وعوداً، فأبت إلا أن تزداد تعلقاً به. لا لتتأمله، بل للسكن في أكثر مناطقه عمقاً، ومجهولاً : انه الذي نراه وقد أخذنا معه، إلي أين...؟ ليس هو المجهول.. بل.. هو كل الذي ستعيد الاحتفاء به: المدن الحالمة في ذاكرتها، ومخيالها الذي علمها كيف تبني هذه المدن. بغداد.. ومدن أخري.. تغدو مظهراً للعمق، ومساحة للامتداد، ومكاناً للتجدد. وفي هذا كله، مكثت الفنانة أكثر وفاءً لهذه الهبات.. فراحت تصوّر موسيقي الفصول، والمرارات العصية لجماليات النذور، تتمتم بها شعرا سبق للكاهنة الأكدية (انخيدونا) ابنة سرجون الاكدي، أن كان لها شرف السبق، كي تستعاد، في رسوماتها، حاضراً معبديا ً للوفاء، وجرحاً راحت الفنانة تشفيه بنصوص الحلم، وبكل الاستحالات التي غدت تدعونا لها إصغاءً يكمن في وعيها المرهف للبصريات، ومعادلاً فنياً توازنت فيه المكونات بسر الصياغة. إن وداد الأورفلي، تكتشف حداثتها، ليس بعيداً عن عمل أقدم الحواس، تلك : وقد وجدت الحلم ذاته قد صار مدينة، وسكناً، ولكن، لا تسكنه الأطياف، بل تحمله، في خلاياها الخفية، نحونا، كي يبقي يتدفق بالمستحيلات./7/2011 Issue 3950 - Date 16-

رحيل فايز محمود : الفكر التربوي لا يقول وداعا



رحيل فايز محمود: الفكر التنويري لا يقول وداعاً
مشروع فلسفي علي طاولة الحوار

مؤيد داود البصام:
فجر يوم الثلاثاء الموافق 12تموز، ودعنا الكاتب والمفكر فايز محمود، وبرحيله تكون الساحة الثقافية العربية والأردنية، قد فقدت احد أهم الرموز الفكرية، الذي اقترنت توجهاته الفكرية بحياته العملية ، فلم يكن ممن يهتم بمركز أو منصب أو إن يكون صاحب مال، كان كل ما يسعي له هو حرية الإنسان ورفع الظلم والقهر عن البشرية، لم أعرف فايز محمود عبر أربعة عقود إلا ذلك الإنسان الرائع في أطروحاته الفكرية وعلاقاته الودودة مع كل إشكال وأصناف البشر، فلم يحمل إي عقدة للضغينة أو الحقد، إنما كان يداري نقده بالسخرية من كل إشكال الجبروت والطغيان ، ولم يعرف الحقد أو الحسد بل كان يكتفي بهزة رأسه مبتسما عندما يقع الحيف عليه، وعندما لا يعطي حقه، لقد كان يتمتع بأخلاق المفكرين العظام الذين نذروا حياتهم وجهدهم لقضية الإنسان أينما يكون، ولهذا كانت صداقتنا من العمق لأننا كنا نشاطر بعضنا في المفاهيم النضالية لأجل الإنسان المظلوم حيثما يكون.
وقال الناقد محمد المشايخ: برحيل المبدع الأردني فايز محمود، فقد الوطن العربي واحدا من أهم مفكريه التنويريين، والمنحازين إلي المقاومة،وقد دفع ثمن ذلك الانحياز وسُجن قبل هبة نيسان، وكان قبل السجن قد تبرّع بمكتبته لرابطة الكتاب الأردنيين، يضاف لذلك أنه كانت له علاقاته الحميمة مع الراحلين تيسير سبول ومؤنس الرزاز وسالم النحاس وخليل السواحري، ومصطفي الفواخيري، كما التقي فكريا مع الأدباء: د.خالد الكركي، علي الفزاع، محمد داودية، محمد ناجي عمايرة، أ.د.أحمد ماضي، أ.د.هشام غصيب، ابراهيم العجلوني، ممدوح أبودلهوم، جميل عويدات،محمد غالب مدادحه، مؤيد داود البصـّام، هذا عدا عن علاقاته وصداقاته لعدد كبير من ابرز رموز الأردن وشخصياته الوطنية، وبقدر ما كان مبدعا، بقدر ما شكـّلت أوضاعه المعيشية معضلة استعصت علي الحل، رغم كثرة الذين حاولوا المساعدة في حلـّها، ومما زاد الأمر سوءا تردي وضعه الصحي في الآونة الأخيرة..كانت إقامته الدائمة في رابطة الكتاب في أثناء عملي بها، فرصة لمطالعة كتاباته المستجدة، وللاستماع لآرائه وأفكاره الفلسفية، ووجهات نظره في مختلف أوجه الحياة، وجميعها كانت تجعلني أراه مبدعا غير عادي، ويفوق كثيرين من عمالقة الفكر في عالمنا العربي.
وقال الكاتب والناقد مجدي ممدوح:
فائز محمود يغادر عالمنا , وما يحزننا انه يغادر عالمنا دون إن ينجز مشروعه الفلسفي كاملا بسبب ضعف البصر الشديد الذي الم به في سنواته الأخيرة.


سيرة فايز محمود
من مواليد المنشية/ المفرق عام 1941، حاصل علي شهادة الثاني الثانوي العلمي من مدرسة المفرق الثانوية عام 1985، بدأ حياته الأدبية متعاوناً مع صحف المنار، وفلسطين، والحوادث، ثم مندوباً لمجلة الأسرة الأردنية في الكويت ومتعاوناً مع مجلة البيان وعدد من الصحف الكويتية، ثم عمل موظفاً في قسم الإعلام والعلاقات العامة بأمانة العاصمة، ثم موظفاً في وزارة الثقافة والإعلام، ثم انتدب من وزارة الثقافة للعمل في إذاعة عمان، وعمل بعدها مستشاراً ثقافياً في دار فيلادفيا للنشر، وعاد ليعمل معلقاً إذاعياً، وتعاون بعدها مع صحيفة الأخبار الأردنية، ثم عمل مستشاراً ثقافياً في جريدة الفجر في أبو ظبي، ومحرراً في مجلة الأزمنة العربية في الشارقة، ومندوباً لجريدة الرأي في الإمارات، وفيما بعد صار مندوباً صحفياً لجريدة الرأي وصوت الشعب في محافظة المفرق، ومحرراً في مجلة المواقف الأردنية، ومستشاراً ثقافياً لدار الفدين للنشر، وصحيفة المحرر، و خلال السنوات 1988-1990 عمل مديراً لتحرير مجلة أفكار، ثم مستشاراً لوزير الثقافة، ورئيس تحرير لمجلة صوت الجيل وعضو هيئة تحرير لمجلة أفكار وعضو لجنة التخطيط والتنسيق في الوزارة، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين (أمين شؤون خارجية سابق في هيئتها الإدارية) وعضو اتحاد الكتاب العرب، وعضو مؤسس في منتدي المفرق الثقافي، وفي الجمعية الثقافية لتعميم اللغة الفصحي (عضو في هيئتها الإدارية سابقاً) وعضو مؤسس في جمعية أصدقاء الآثار بمحافظة المفرق، حاز علي جائزة غالب هلسا للإبداع الثقافي من رابطة الكتاب عام 1994 وعلي ميدالية الحسين للتفوق من الفئة الأولي في مجال الآداب للعام 2000
û صدرت له الكتب التالية:
1ــ الحقيقة (بحث في الوجود)، ط1، عمان: المطبعة الهاشمية، 1971. ط2، عمان: المطبعة النموذجية، 1989.
2ــ العبور بدون جدوي (قصص) عمان: دار فيلادلفيا للنشر، 1973.
3ــ الأبله (قصة) عمان: رابطة الكتاب، 1979.
4ــ القبائل (قصص) عمان: اتحاد الكتاب الفلسطيني، 1981.
5ــ مشكلة الحب (العناء الإنساني دون جدوي) عمان: دار الأفق الجديد، 1982.
6ــ المفرق (تاريخ صحراوي) عمان: دار الأفق الجديد، 1983.
7ــ تيسير سبول (العربي الغريب) عمان: دار الكرمل، 1984.
8ــ الحرية والضرورة (في مجتمعات الإنسان والنمل) عمان: دائرة الثقافة والفنون، 1985.
9ــ أوراق فلسفية، عمان: وزارة الثقافة، 1988.
10ــ ثلاثة نقوش محجوبة (1) عمان: دار النسر، 1989.
11ــ ثلاثة نقوش محجوبة (2) عمان: رابطة الكتاب، 1997.
12ــ صدي المني (نصوص المقال) اربد: دار قدسية، 1990.
13ــ قابيل (قصص) عمان: وزارة الثقافة، 1990.
14ــ آفاق (في الفكر والعلوم) عمان: مطابع الدستور بدعم من وزارة الثقافة، 1996.
15ــ نزف مكابر (نصوص قصصية) عمان: دار النسر، 1996.ط2 2003.
16ــ ثلاثة نقوش محجوبة (2) رابطة الكتاب ودار الكرمل، عمان، 1997.
17ــ بلا قبيلة (مختارات قصصية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
ط2، وزارة الثقافة الأردنية، عمان، 2002ـ
18ــ الأردن آفاق وطنية وقومية، عمان، دار الإيمان 1998.
19ــ شروق -نصوص الخفاء- أمانة عمان الكبري، 1998.
20ــالأعمال الكاملة(إبداع) البنك الأهلي، 2006
21ــ آفاق في الأدب والفن، 2008
22ــ أوراق فلسفية، دار ورد، عمان، 2008
/7/2011 Issue 3953 - Date 20-

الركع بوصفه شاهد على الصحوة : توظيف التراث في المسرح العربي



الركح بوصفه شاهد علي الصحوة: توظيف التراث في المسرح العربي
مسرحة حكايات الناس تؤرخ لأحلامهم

مؤيد داود البصام:
يناقش المؤلف يحيي البشتاوي في كتابه (توظيف التراث في المسرح العربي) الصادر
عن دائرة الثقافة والإعلام. حكومة الشارقة - هذا العام، دور المسرح بوصفه شكلا من أشكال التعبير وأداة من أدوات التواصل بين أبناء الجنس البشري، ولأهمية الخطاب الذي يطرحه المسرح فقد ارتبطت مفاهيم الكثير من المسرحيين العرب بالتراث أثناء فترة ستينيات القرن الماضي، ما تسمي بالصحوة العربية، وهو ما جعل بروز ثنائية الأصالة والمعاصرة اللتان تحققان وحدة عضوية تعبر عن الرؤية المعاصرة للتراث، وجعل الكثير من المسرحيين العرب البحث عن مخرج لكسر هيمنة الشكل المسرحي الأوروبي والخروج بشكل مسرحي عربي يرتكز علي الموروث، من شأنه أن يكشف عن روح الأصالة في الأمة العربية، وهو ما يتطلب الانفتاح علي الآخر بوعي ونضج، ضمن هذه المفاهيم التي وضعها البشتاوي قدم كتابه (توظيف التراث في المسرح العربي )، الذي جاء ب295 صفحة من القطع المتوسط، من إصدار دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة. دولة الإمارات العربية المتحدة. وتالف من ثلاثة فصول وقائمة المصادر والمراجع، ناقش في الفصل الأول: الذي وضعه في قسمين مع مقدمة بتحديد المصطلحات، أولاً . التراث بين الأصالة والمعاصرة، وثانياً . توظيف التراث في المسرح العربي، وأستخلص في نهاية الفصل إلي أن، " نقد الحاضر في ضوء معطيات الماضي، من خلال أشكال الفرجة المسرحية والظواهر الدرامية....وترسيخ قيم فكرية وفنية وجمالية تتجاوز التقليد والاستنساخ المبرمج للمنتج المسرحي الغربي.".
الفصل الثاني: بعنوان توظيف التراث في الأدب المسرحي العربي. وقسم إلي أربعة مباحث، توظيف التراث في الأدب المسرحي المصري، وتوظيف التراث في الأدب المسرحي السوري، وتوظيف التراث في الأدب المسرحي الفلسطيني، وتوظيف التراث في نصوص الشيخ سلطان بن محمد ألقاسمي المسرحي. وفي هذا الفصل يستعرض عبر المباحث الأربعة دور كل من الأدباء توفيق الحكيم ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود ذياب من كتاب المسرح المصري، وأهمية المسرحيات التي قدموها لتأصيل المسرح العربي وكذلك فعل في المبحث الثاني. الذي اعتبر فيه المسرح السوري ريادي في توظيف التراث في المسرح العربي بتجارب الرواد أحمد أبو خليل القباني ومارون نقاش ، ويعد تجربه سعد الله ونوس في توظيف التراث من التجارب المهمة في المسرح العربي، من خلال تعريته للواقع السياسي المتهرئ، ويقود الإنسان للخلاص من الفساد والانحلال المتجذر، ثم ينتقل إلي تجربة الشاعر محمد الماغوط المسرحية، التي يبرز في مسرحه عالما شاسعا من الأحداث والمواقف بأسلوب كوميدي نقدي، من البيئة المضطربة المتقلبة التي عاش في أجوائها، فلم ينفصل عن الوجود الإنساني وتحولاته المأساوية. وفي المبحث الثالث. يتناول المسرح في داخل فلسطين المحتلة، بدء بالأدباء نصري الجوزي ونجيب نصار ومحمد عزة دروزه وحنا شاهين ومحي الدين ألصفدي، حيث استمدوا موضوعاتهم من التاريخ العربي وما اتصل به من قضايا اجتماعية، وهو الجانب الذي يتيحه لهم للحديث بحرية في صراعهم مع المحتل الصهيوني، و يناقش مسرحيات غسان كنفاني وكيف وظف الأسطورة في معالجة الصراع بين المحتل وأهل البلد، ويتناول كذلك نتاج إميل حبيبي المسرحي، في كشف معاناة الإنسان الفلسطيني في ظل الاحتلال ومأساته وموقفه القائم علي الصمود والإدراك والوعي. وفي المبحث الرابع. يتناول توظيف التراث في نصوص سلطان بن محمد ألقاسمي المسرحية، التي إستند فيها إلي عدد من المرجعيات الفكرية والجمالية النابعة من التاريخ بشكل خاص، فهو ينتقي من التراث أفكاراً أو مواقف أو قيماً فكرية يمكن لها التفاعل مع القضايا المعاصرة، ويدمجها في أحوال العرب الراهنة.
الفصل الثالث: توظيف التراث في العرض المسرحي. وهو الفصل التطبيقي للنصوص المسرحية وعروضها علي خشبة المسرح، التي تتشكل من عروض مسرح الحكواتي وتداخلاتها التاريخية. قسم الفصل إلي خمسة مباحث، المبحث الأول، توظيف التراث في عروض فرقة مسرح الحكواتي اللبنانية، ويركز فيها علي تجربة المخرج روجيه عساف، التي قامت علي رفض الشكل الأوروبي السائد للمسرح، بوصفه يحمل دخيلاً لا يمكن له التعبير عن حاجات الإنسان العربي، ولأنه لا يتلاءم مع الذوق الشعبي للجمهور العربي، مؤكداً أن فرقة الحكواتي قد دفعت بالظاهرة المسرحية في لبنان إلي مداها الأرحب والأوسع، وذلك عندما جعلت من المسرح أداة نضالية ثورية، من خلال تأسيس علاقات حميمية وجدية مع الناس. وفي المبحث الثاني. توظيف التراث في عروض فرقة مسرح الحكواتي الفلسطيني، إذ يأخذ سيرة الفنان فرانسوا أبو سالم الإخراجية بوصفها ظاهرة مهمة في حركة المسرح الفلسطيني، ولاشتغال وسعي فرانسوا إلي تأكيد دور المسرح في تدعيم أسس مقومة المحتل. وذلك بتأسيس فرقة البلالين ومن ثم فرقة، بلا- لين، التي انبثقت منها فرقة مسرح الحكواتي الفلسطينية، وإقامة مسرح النزهة الحكواتي، وتمثلت فلسفة فرانسوا علي أن الشخصيات في مسرح الحكواتي تعمل علي تشريح الواقع وتوضيح أبعاده بكل واقعية، مستخدمة الاحتجاج والسخرية والتهكم أداة للتعبير عن موقفها الحياتي القائم علي نقد الواقع. وفي المبحث الثالث. توظيف التراث في عروض جماعة المسرح الاحتفالي في المغرب، ويعتبر أن قيام جماعة المسرح الاحتفالي لم يكن وليد المصادفة، وإنما كان نتيجة لتوحيد في الرؤية وتجانس في الفكر بين عدد من المخرجين والممثلين والنقاد، وقد كان أبرزهم المخرج والممثل المغربي الصديق الطيب، ومنظر الجماعة الناقد والكاتب عبد الكريم برشيد، والنافد عبد الرحمن بن زيدان وغيرهم. ويوضح أن المسرح الاحتفالي يقوم علي الإفادة من المظاهر الاحتفالية في التراث العربي، حيث يصاغ النص انطلاقاً من الذاكرة الشعبية العربية التي تحوي قضايا الناس وممارساتهم الشعبية في المواسم والساحات العامة والأسواق.. وقدم رؤية لجماعة المسرح الاحتفالي من خلال بيانهم الأول الذي صدر عام 1976، (هو تعبير جماعي عن حس جماعي وقضايا جماعية، قضايا لها وجود مكاني وآني، لها إشعاعات إنسانية جماعية)، وهو بهذا يري أن ظاهرة المسرح الاحتفالي، (لا ترتبط بالجانب الفني فقط، وإنما يمكن الفائدة منها في كل مجالات الحياة بوصفها تشكل تصوراً للحياة والإنسان، وتملك موقفاً من السياسة والمجتمع والأخلاق والتراث، منطلقا في ذلك من حجم المعاناة الواقعية). ويتناول في المبحث الرابع. توظيف التراث في مسرحيات قاسم محمد، يري البشتاوي في مسيرة الفنان قاسم محمد، سيرة حافلة بالبحث والعطاء، لا سيما محاولاته المتقدمة في توظيف التراث العربي الإسلامي في المسرح، وتأصيل المسرح العربي بصيغ وإمكانيات فنية متقدمة ، وفي هذا يقول أنه يعتمد علي المنهج الانتقائي في تناوله للتاريخ، وإذ يوجه اهتمامه إلي الحياة الشعبية العامة للناس في الأسواق والشوارع والأماكن العامة، يغريه التاريخ بمفاخره وأمجاده وبطولاته، ويعدد مصادر الفنان قاسم محمد التراثية بين فن المقامات وكتب التراث، حيث يختار الشخصيات الساخرة التي تحفل قصصها بالحكايات الشعبية والطرائف النادرة، لذلك ينبغي البحث عن الدلالات الغنية بالمادة التراثية انطلاقاً من تأثير الحس الدرامي في الحياة. ويري البشتاوي من خلال وجهة النظر هذه، شكل قاسم مشروعه الثقافي في سبيل خلق هوية عربية تركن إلي التراث ومعطياته، لا سيما فن المقامة، لطرح رؤية معاصرة تتخذ من الفرجة المسرحية وسيلة للتجسيد، ويري إن توظيف التراث في عروض قاسم محمد، يقوم علي بناء المواقف والشخصيات المسرحية وفق معالجة درامية جديدة تحرص علي تقديم مسرح أكثر تمثيلاً لروح الشعب وضميره. ويختتم الفصل بالمبحث الخامس. توظيف التراث في مسرحيات غنام غنام، ويهتم بتجربة الفنان غنام غنام كونها مشروع فنان متكامل بصفته الشمولية وإمكانياته المتقدمة في التأليف والإخراج والتمثيل المسرحي، وقد وجد الفنان غنام في التراث الشعبي مادة خصبة يمكن استلهامها وتوظيفها في المسرح، ومادة ثرت للتعبير عن هموم الحياة اليومية وحكمها وأهازيجها وفلسفتها وطقوسها، فمسرح حكايات الناس عبر عن اهتماماتهم، وجسد في مسرحيات روح الفرجة المسرحية بأشكال متعددة ومختلفة. ولهذا يري أن التراث ظل حاضرا في مسرحيات غنام بكل تجلياته من تكنيك الحكواتي والراوي الشعبي، وحلقات الفرجة في الساحات والأسواق العامة، تلك الفرجة القائمة علي حضور البديهية، وارتجال المواقف المسرحية واعتماد الرقص والغناء والشعر الشعبي والزجل وسائر وسائل التعبير المختلفة.
تكمن أهمية كتاب توظيف التراث في المسرح العربي، أنه يقرن البحث النظري بالجانب العملي، وهو ما نفتقده في ثقافتنا المسرحية، وهو النقد التطبيقي، فالمكتبة المسرحية العربية تفتقد لمثل هذه الكتب التي تشير إلي التطبيقات أكثر مما تأخذ الجانب النظري الذي أشبع بحثاً ودرساً . /7/2011 Issue 3954 - Date 21-

مبدعون يناقشون عودة الأنسنة في الفلسفه والأدب والسياسة



مبدعون يناقشون عودة الأنسنة في الفلسفة والأدب والسياسة
هل يراقب المثقف العربي الثورات من نافذته الصغيرة؟

مؤيد داود البصام
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام التي تشهد فيها الساحة العربية حراكا غير مسبوق في محاولة لتغيير الواقع علي الصعيد الرسمي بإرادة جماهيرية، (أين المثقف من كل هذا؟ )، وما يدور في الساحة العربية هو الذي حرك النقاشات والحوارات حول دور المثقف الاجتماعي، وأدي إلي انقسام علي صعيد ما يدور من نقاشات بين المثقفين أنفسهم عموما، وبين ما يفكر به الآخرون حول دور المثقف من الإحداث، هذه الأسئلة وغيرها حددت أهمية الأسئلة المطروحة في الشارع العربي والعالمي، وهي أسئلة كثيرة، ولكن نختصر منها، نضع الأسئلة الأكثر التصاقا في واقعنا، هل ما مر علي الأمة العربية والمنطقة من أحداث ، قادتها القوي الامبريالية والصهيونية خلال العقود الماضية وما عملت عليه من بداية القرن العشرين ولحد الآن، بالاحتلال والاستعمار المباشر أو غير المباشر ، أو ما صنعته هذه القوي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من أصنام وزعامات تحكمت بإرادة شعوبها وما زالت تتحكم، هي التي أوصلت الشارع لهذا الحراك؟، أم الموقف المترجرج للمثقفين العرب عموما، والنخب، هو ما أوصل المثقفين عموما إلي عدم اتخاذ موقف بين؟ أم ضعف الثقافة بشكل عام لدي شعوبنا، وترسخ التخلف في مفاصل مجتمعاتنا حتي بالنسبة للذين يحسبون علي الوسط الثقافي وعلي النخب، سمح لمأساتنا أن تتفاقم؟ أم ضعف وعي المثقف لدوره بين الذاتي والموضوعي هو الذي أوصل المشهد علي ما نحن عليه؟، أم قلة الكتب ودعوات الاستنارة؟. هذه الأسئلة وغيرها التي يعيش أحداثها الشارع العربي، أثارتها الندوة التي أقيمت في رابطة الكتاب الأردنيين لقراءة كتاب (عودة الأنسنة في الفلسفة والأدب والسياسة ) للدكتور جورج الفار أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية، وقد وضع د. الفار في نهاية كتابه خاتمة عامة، أغنتنا عن تلخيص الكتاب للقارئ الكريم، ليمكننا من التواصل وفهم الحراك وما نحاول مناقشته، يقول في الملخص: بحثنا في القسم الأول من هذا الكتاب في المقدمات النظرية للنزعة الإنسانية، محاولين أن نؤسس بعداً فلسفيا لموضوع الأنسنة، فبعد أن نوهنا إلي النظرة التاريخية رأينا الإشكالية الفلسفية الكامنة خلف موضوع بحثنا، وأوجزنا البحث في فلسفة الأنوار من حيث التأسيس الفلسفي للنزعة الإنسانية وركزنا علي ردود الفعل الذي قامت بها الفلسفة الحديثة والمعاصرة علي هذه النزعة التي تكرست في عصر الأنوار الأوروبي، وللمفارقة، وجدنا أن هذه النزعة التي تكرست وفلسفت مع عصر الأنوار في فرنسا، جاءها النقد والنقض من الفلاسفة الفرنسيين بالذات في القرن العشرين مثل ليفي شتراوس، وميشيل فوكو، ومن الفيلسوف هيدجر. وقد عرفنا فكر هؤلاء الفلاسفة من زاوية هجومهم علي النزعة الإنسانية ومناداة ميشيل فوكو ب " موت الإنسان" ونقدنا مثل هذه الفلسفات مشيرين إلي الجانب الإيجابي منها، وهو عدم قبول تاليه الإنسان وتنقيتهم للنزعة الإنسانية من ارتباطها بالرومانسية من جهة، ومن الأيديولوجيات المحيطة بها من جانب آخر. إلا أن هذه الفلسفات مهما أوغلت في نقد النزعة الإنسانية، فإنها لم تستطع إلغاء الإنسان من التأريخ، ولن تستطيع إنكار الذات الواعية في صناعة التاريخ وإنكار دور الوعي، ودور الشعور الإنساني وقدرته علي تطوير ملكاته وحياته. وما نراه الآن من حضارة وتقدم وعلم عائد لتلك الذات الإنسانية التي أصرت علي إنجاز عملية التطوير.
وفي الجزء الثاني، بحثنا في مشاريع الأنسنة العقلانية (الفلسفية ) المعاصرة في العالم العربي، فقدمنا نماذج وعرضنا لمشاريع الأنسنة العقلانية في مشاريع كل من عبد العزيز الحبابي ومحاولته لأنسنة الشخص، عن طريق إظهار قيمة" الشخصية الإسلامية ". وانتقلنا إلي محمد أراكون، رائد الأنسنة في العالم العربي الذي حاول أنسنة الدين في مشروع طويل ومستمر منذ خمسين عاماً، ثم بحثنا في محاولة " انسنة التأريخ" التي قام بها المفكر عبد الله العروي. وتوقفنا عند أحد مشاريع المفكر الخصب محمد عابد الجابري الذي كان جزء من محاولته ينصب في محاولته أنسنة السياسة العربية. وانتقلنا من البحث من أنسنة السياسة لمحاولة أنسنة الأخلاق التي قام بها عادل ضاهر، وعرجنا علي محاولة أنسنة الثقافة التي حاول القيام بها بولس خوري. وابتداءً من الفصل الثاني من هذا الباب، طرحنا مشروعنا الذي نتصوره لكيفية اشتراك العرب في المجهود والحضارة الإنسانية المعاصرة.
وخصصنا الجزء الثالث من الكتاب، للبحث في إمكانية أنسنه العقل العملي وتساءلنا عن المدي الذي وصلت إليه عملية أنسنة الإنسان وعقله الذي نعده الفاعل الرئيس في عملية الأنسنة التي عرفناها بأنها: " العقلانية في مواجهة الغرائزية والأسطورية". ثم انتقلنا إلي تقديم بعض النماذج الإنسانية المعاصرة إضفاء لمسة إنسانية علي الأدب والشعر والرواية وحتي علي المقاومة، ثانياً اخترنا من هذه النماذج الإنسانية المعاصرة أديبين من الأدباء العرب، هما نموذجان للأنسنة في الأدب العربي بالذات، جبران خليل جبران وطه حسين، كما اخترنا نماذج من الأدب الروسي واليوناني والأمريكي، منوهين إلي قدرة الإنسان في العالم الثالث علي تخطي الأسوار التي تحتجزه والصعوبات التي تحد من إنسانيته ليفيض الأنسنة علي العالم. أما النماذج الأخري المميزة فقد اخترناها من عالم السياسة والمقاومة: أولهما، المهاتما غاندي الذي أختار المقاومة السلمية(ثورة اللاعنف)، والآخر المقاومة المسلحة، إلا انه أنسن هذه المقاومة، وأعني به " نلسن مانديلا "، ليصبح فيما بعد رمزاً عالمياً لمحبي السلام في العالم. ]وهذا ما فعله مارتن لوثر كنج فقد ضحي بحياته للدفاع عن الحقوق المدنية للسود [. وفي الندوة قدمت قراءتان للكتاب، الأولي لد. هشام غصيب رئيس الجمعية الفلسفية الأردنية والثانية لد. محمد الشياب رئيس قسم الفلسفة في جامعة اليرموك، ولم تقدم لنا القراءتان عن الكثير مما طرحه المحاضران نفسيهما أو ما جاء في المناقشات التي دارت بعد قراءة المحاضرين للكتاب، إلا من مداخلة الأستاذ موفق محادين، إذ تطرق إلي البعد الجماهيري الغائب في هذا الحراك التنويري أهميته، بصفته يشكل الأساس لهذا المشروع ، وهو الآخر لم يضع البعد الجماهيري الذي تحدث عنه الكتاب في المثالين، نلسون مانديلا والمهاتما غاندي، لماذا نجحا في استقطاب الجماهير حول مشروعيهما التنويري، ولم يتشكل عندنا في الوطن العربي مثل هذا التشكيل؟ بغض النظر إذا نجح كليا ً أو جزئيا ً، إذا استثنينا تجربة الراحل جمال عبد الناصر في تغيير معالم الفكر العربي وذهنية الجماهير العربية، التي استطاعت القوي المناهضة داخليا وخارجيا من إسقاطها في عهده وانهيار المشروع بعد وفاته، والسؤال أين الجماهير التي آمنت به؟، أو بالزعامات التي طرحت مشاريعها التنويرية، بغض النظر إذا تطابقنا معهم فكريا ً أو اختلفنا أمثال جورج حبش وصدام حسين وأحمد بن بيلا ..وغيرهم، علي الرغم من أن المحاضرين اتفقا علي إن مشروع الفار مشروع تنويري في هذا الكتاب، وهو ما سنقف عنده في هذه المداخلة، من نقطة الطرح التي بدأها د.هشام غصيب في وصف الكتاب في قوله، " إنه أقرب إلي المنفستو، منفستو الأنسنة والعقل المؤنس "، لاشك إن رأيا ً لمفكر مثل غصيب له أهمية في رؤية العمل نظريا ُ، وهي وجهة نظر صحيحة فيما جاء في الكتاب من بحث جاد في التنقيب عن الانسنة في الوقت الذي ضاعت فيه الانسنة أمام غول الرأسمالية الذي أجتاح العالم بلا منافس بعد نهاية المنظومة الاشتراكية، ولكن علينا الوقوف علي مدي أهمية الكتاب والأطروحات الفكرية التي تحتويه عمليا علي الساحة العربية ومدي ما سيغيره من الواقع الذي نعيشه، والإشكالية التي يعيشها واقع الحركة الثقافية برموزها، وهو ما جعل الأستاذ هشام غصيب يستدرك أثناء مداخلته في القول،(إننا لو أخذنا المشاريع التنويرية التي ظهرت في التاريخ، فكم شخصا ً قرأ ديكارت أو كانت أو هيغل في وقتها، حتي من المفكرين الذين عاصروهم )، وهي وجهة نظر صحيحة مائة في المائة، ولكن الواقع في عصرهم كان مختلفا بمختلف صوره الاقتصادية والاجتماعية، وقدرات البرجوازية التي كانت تناضل لإثبات وجودها أمام النهج الإقطاعي في الحياة، أما الآن فهناك اختلاف بين، من حيث الواقع الذي نحن عليه، اقتصاديا ً واجتماعيا ً بوجود تطور المواصلات والاتصالات، عصرهم كان بداية الانقلاب علي العصر الإقطاعي والتغيير في كافة أطر الحياة التي وصلت إلينا علي مدي العقود التي تلته، وكان الانقلاب الاقتصادي والتحول نحو المجتمع الصناعي هو محرك هذه الأطر وأعطي ثمار مردوداتها علي مجتمعاتهم، وعلي الفكر الإنساني عموما لاحقاً، أما الواقع الذي نعيشه يختلف في طبيعة مجتمعاتنا ذات البنية الإقطاعية، والتي لم تتخلص من شكل البناء الاجتماعي والاقتصادي الإقطاعي الذي جل تحوله كان الاتجاه نحو التجارة (الكمبردورية).. المرتبطة بالرأسمالية اقتصادا، واستئثار وأستقواء الرأسمال العالمي وفرض نفسه علي كافة الصعد، وبناءه منظومة ثقافية واقتصادية، اخذ في فرضها بالقوة وبمختلف الأساليب، وأسس جيوش لتنفيذ فكره الاستغلالي، ولهذا ما زالت السلطة المتخلفة، إذا كانت بصورتها الدينية أو الأبوية هي المهيمن علي مجتمعاتنا، وما زال إنساننا يتعامل مع وقائع التطور الفكري والتقني بعقلية الفلاح والبدوي، ومن هنا يأتي السؤال: هل يمكن أن نعد ما يصدر من كتب تنويرية كما هو كتاب الفار سيحقق ما قاله الغصيب في مداخلته كما حققت كتب الأسلاف وما قدمته؟، " هذا المنفستو المكثف المفعم بالفكر والشعور والعاطفة، والذي لا يسمي إلي المعلومات والمعرفة الباردة وحدها، وإنما يسعي إلي التغيير والتأثير والفعل وخلق حياة إنسانية جديدة بأن تحيي . "، أمام واقع مجتمعاتنا المتخلفة، وفئة المثقفين الذين يعيشون انعزاليتهم وتعاليهم عن الجماهير، لا بل واقعهم المتشتت والمفترق وغير المتفق علي أبسط الأمور، لا بل انجرار الكثير منهم وراء المشروع الامبريالي، في تحويل الإنسان إلي مجرد سلعة أو رقم، ومن ضمنهم المثقفين من أجل مكاسب فردية، لا شك أن الغصيب والفار والكثير من المثقفين يعرفون إننا علي مدي المائة سنة الماضية ظهرت في منطقتنا العربية الكثير من الآراء التنويرية والثورية، ولكنها لم تعطي ثمارها حتي تتحقق، وكما قال هشام غصيب في قراءته، " الانسنة تحارب علي جبهتين: جبهة الاغتراب الإقطاعي الديني في الأمم المتخلفة، وجبهة الاغتراب الرأسمالي الفتشي (الاغتراب الرأسمالي ) في الأمم الرأسمالية المتقدمة، والمسألة بالطبع ليست مسألة فكرية بحتة، وان كان الفكر يؤدي دورا ً مهما جداً فيها." إذن أين الخطأ في أننا تراجعنا بالرغم من كل المشاريع التنويرية التي طرحت؟ وهشام غصيب أحد المفكرين المهمين من هؤلاء الذين ما زالوا يطرحون أفكارهم التنويرية ، والثورات والانقلابات التي اشتركت فيها النخب الثقافية بشكل وآخر، في البداية أو التحقت فيها بعد ذلك، هناك خلل في المنظومة الثقافية والتعليمية من جراء البناء الاقتصادي الاستهلاكي الذي يرسخ التخلف في مرافق الحياة والعقلية الأقطاعية الأبوية في نظام حياتنا، وهو ما يشير له المؤلف جورج الفار إشارة عابرة، في الفصل الثاني، " كما تقوم علي فئات الشعب الفقيرة الذي سيزداد فقرا ً وتخلفا ً وجهلا ً في عالم لم يعد له فيه مكان، بدل أن يحسن ظروف حياته، ليستطيع المنافسة في هذا العالم، ليمتلك أسباب فهمه والأندماج معه. " (ص112)، وإذا أخذنا المثال الذي طرحه الغصيب، " ويذكرني بنفسي ورفاقي عندما أسسنا منتدي الفكر الاشتراكي عام1993 وأصرينا علي رفع راية الاشتراكية في لحظة تقهقرها وهزيمتها الظاهرية، في الوقت الذي كان يتساقط فيه السياسيون والمثقفون أفواجاً وجماعات في حضن الفكر البرجوازي النيوليبرالي. " . وهنا يظهر لنا الأمر جليا في وجود الخلل في منظومة إنساننا الفكرية والاجتماعية وواقعه الاقتصادي، التساؤل الذي قاده المثل، هل من المعقول يتشكل لدينا هذا السقوط المعرفي في النخبة، ونحن في بداية الألفية الثالثة، مع ما موجود من تطورات علي جميع الأصعدة في سهولة الاتصالات وتوسع الحصول علي المعرفة، وإذا كان في التسعينيات تساقط النخبة، فلا غرابة اختلافها المفزع الآن، وركون القسم الآخر بانتظار ما سيحدث للظهور علي شاشات الفضائيات المدفوعة الثمن، وإذا شخص هشام غصيب هذا السقوط بما سماه " صنف من الاغتراب يعمل علي تجريد الإنسان من إنسانيته "، ومن ثم يصفه " إنه يفقد إنسانيته بفقده ذاته العالقة الخلاقة وقيمته الفردية والاجتماعية والأخلاقية المطلقة، وهذا هو أحد ألوان الاغتراب الذي ثار عليه جورج الفار وتحداه ."، إذن نحن في واقع الحال نفتقد إلي القيادة الثقافية، التي تعيش اغترابها من دون أن تكتشف ذاتها الفاعلة، التي يمكن لها أن تحرك الشارع نحو تغيير حقيقي لا تغيير مزيف، فكيف يمكن تحقيق هذا التغيير في بنية الجماهير؟، إذا كانت النخبة لا تملك قدرة بناء كتلتها التي تستطيع من خلالها مواجهة الهجمة الامبريالية العاصفة التي ما زالت تحاول بكل ما تملك من وسائل في إخضاع الإنسان وموارده لصالحها، وهي هجمة لا تخص جزء معين من دون جزء في منطقتنا العربية بل كل المنطقة العربية بجميع أجزاءها، وان تحركت علي هذا الجزء قبل ذاك الجزء، فهي محاولة لاحتواء غضب الجماهير غير المنظم، وهو ما يخيف الامبريالية وتوابعها لأنه تحرك لا يمكن حسابه والمفاجئات به أكثر من التوقعات، لهذا تتحرك الدائرة الامبريالية علي ضوء السبق لاحتواء ثورة الجماهير، وتخطيط المنطقة حسب برنامجها، تحركها يتبع الإستراتيجية التي تقوم علي إيجاد المناطق السهلة والرخوة للنفاذ، وهنا التساؤل ما هو البرنامج الذي تطرحه النخبة الثقافية أمام هذا التردي الثقافي؟، بانقسامها الفكري في معرفة الصحة من الخطأ فيما يحدث، الذي جعل الجماهير تتجه إلي الغيبيات، وتتخلي عن مطامحها الكبري إلي المطامح الصغري، وفقدت الحس فيما يحدث ويخطط لها، أنها محقة في تحركها لأن الظلم وصل إلي العظم، ولكن يجب أن نحسب أن لا نعود إلي المربع الأول، بعد كل هذه التضحيات، الآن نحن لا نطالب بالوحدة العربية، ولا بتحرير فلسطين والأراضي المحتلة هنا وهناك من أجزاء وطننا العربي، بل بدأنا ننظر كيف نحافظ علي دولنا من التجزئة، ومدننا من التقسيم، نحن الآن لا نطالب باقتسام الثروة ولكن بلقمة العيش التي تحفظ كرامتنا، لا ادعُ إلي التشاؤم ولكن أطالب بوضع برنامج نكرس فيه طاقات الجماهير، لبناء منظومة فكرية تستطيع من وضع منهاج عمل جرئ، فيه هذا البعد النظري الذي طرحه كتاب (عودة الأنسنة في الفلسفة والأدب والسياسة) بالروح العملية للوصول إلي قلب الحدث ومحاكاته، والسير معه جنبا ً إلي جنب في تحولاته وتطوراته، إيجاد البرنامج للمثقف الفاعل، لان هذه الكتب لا تقرأ من عامة الناس إنما من النخبة التي لم تتفق علي أن ما يحدث مخطط له من قبل القوي الإمبريالية والصهيونية؟ أم هناك تنظيم حقيقي لجماهير تريد التغيير نحو الأحسن، وليس نحو الفوضي الخلاقة، التي صهرت الحديد والحجر. 

عبد القادر ألبخيت وأحلام اليقظة ...



عبد القادر البخيت وأحلام اليقظة..
مشاعر ملفوحة بشمس السودان في فضاء اللوحة

مؤيد داود البصام
أقام الفنان السوداني عبد القادر البخيت معرضه الأخير في قاعة الأندي في العاصمة الأردنية عمان التي أقام فيها أكثر من معرض السنين الماضية، والفنان عبد القادر خريج كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم/ جامعة السودان، ويقيم في عمان منذ زمن ليس بالقريب، وقد حصل علي جائزة اليونسكو للدورات الفنية العام 1988.
إيحاءات النشوة...
توحي لوحات الفنان عبد القادر البخيت بمشاعر مباشرة تنتاب المتلقي عندما يقف أمامها، عالم زاخر بمفردات الإحساس انه يعيش أجواء السودان وصخب الحياة في ليالي الأفراح التي تحييها القرية السودانية، حينما يقترن يومها بحدث مفرح، وتسود في أجوائها روح المحبة والمرح والبساطة، عناصر متعددة الأنساق للجمال المتوهج في الحركة والصوت والألوان للإنسان السوداني، الذي يعيش في ارض مترامية الأطراف بين كثافة الغابات والخضرة التي تحجب أشعة الشمس وبين الأراضي الصحراوية الجرداء، البيئة السودانية التي تحمل تنوع في كل مناحي الحياة والتضاريس، إنها روح البيئة السودانية، فيها هذه الصفة البارزة التي تمثل الإنسان العربي السوداني، الطيبة التي تشع من عينيه متجسدة في حركاته وسكناته وعلاقته بالآخر، هذه الانفعالية الوجدانية التي تتسم بها روح الإنسان السوداني تجدها في رؤية بصرية متجسدة في لوحات ورؤي الفنان عبد القادر وهو ينقل علي ظهر اللوحة حياة المدينة والريف وبالأخص الريف السوداني، بأرضه وإنسانه وأطفاله، والتفاصيل الصغيرة المتناثرة في سطح اللوحة.

اللوحة طقسية تعبيرية..
اللوحة عند البخيت فيها طقس لا يخرج منه علي الرغم من تعدد الأنساق التي يشتغل عليها، فهي لوحة تعبيرية في المقام الأول، سطوحها تزخر بالرؤية الجمالية والانفعالية وفيها هذه الحيوية والفاعلية في مجمل الخط واللون والنص، وهو وان اشتغل علي تجريد أشكاله الواقعية، بتسطيح اللوحة من أبعادها الثنائية، إلا انه لم يخرجها من سماتها الواقعية، إذ جمع بين السطح التصويري بانتشار اللون وقوة الخط وبين الحفر الغرافيكي، لإظهار تعدد السطوح ومستوياتها، وإزاء كل الأشكال التي قدمها، إذا كانت لوحة أو تشكيل لكرات وانساق هندسية أخري، إلا أن لوحته ظلت متوازنة في بناءها العام ، وسيطرته علي الكتلة والفراغ ليشحنها بهذه الروح الانفعالية من خلال كثافة اللون وتنوعه، اللوحة عنده سرد بصري، يشكل اللون أهمية في تحريك عناصر بناء اللوحة، لإنتاج هذه التعبيرية الانفعالية، أشكاله مسكونة بهاجس التقاط البراءة في عالم خارج إطار الواقع ومحمولات الدنيوية، ولهذا يشكل اللون الوسيط الدال علي الكتلة والفراغ الذي يحكم الرؤية البصرية لإبعاد اللوحة وتجانس عناصرها، وهو لا ينقل الواقع بدقة تكويناته، وإنما ما يقدمه من تعبير وانفعال في الرؤية البصرية بين اللوحة والمتلقي، وهو وإن استخدم في معرضه الأخير، قري نائية )، الألوان الباردة إلي جانب اشتغاله السابق بكثافة الألوان الحارة، إلا إن ألوانه الحارة ظلت هي السائدة في اللوحة لتعبر عن طبيعة البيئة السودانية، وقدرته علي أن يجعل القيم الجمالية تخضع لحس البيئة المحلية، بصيغ حداثوية في تعامله مع سطح اللوحة، فهو لا يمتنع عن استخدام أنواع مختلفة من المواد وبتقنيات متنوعة علي ظهر اللوحة من خيوط وأوراق وأقمشة تقترب من الكولاج، ولكنها تقنية تحاول إظهار تأثير اندماج العناصر بين النسيج اللوني مع المنمنمات التي تشكل أهميتها كونها جزء من بنائية اللوحة وليس موضعها قسري، محركا ظهر اللوحة عبر تأكيده علي الألوان الحارة، فتكون الإحالات جزء من بناء اللوحة وليس خارج إطارها، ويصبح الكولاج ليس لبناء تشكيل منفصل عن البناء العام لتجسيد رؤية معينة ومحاولة تداخل العناصر مع بعضها، وإنما جزء من طبيعة استخدام الخامات المتعددة في البناء العام وجعله متفاعل كأي عنصر آخر في تقنيات اللوحة.

طقوس وتشفير من خزين الذاكرة...
ظل الإنسان يلاحق الأسطورة كجزء من معتقده بخلق الكون بعض الأحيان، أو للكشف عن كنه الوجود الذي ظل خافيا عليه علي الرغم من التطورات العلمية التي وصل إليها، وظلت أفريقيا بإسرارها التي تختفي في داخل حياتها الملغزة، عطاء ثر للأساطير والسحر والتعاويذ وغرائب القصص عن بيئتها و حيواناتها و إنسانها وطبيعة تضاريسها، وأستغل الرجل الغربي حالة التخلف والجهل في المجتمعات الإفريقية لينهب ثرواتها ويستعمر أرضها ويستعبد إنسانها، وعمل علي ترسيخ الواقع المتخلف، والتجهيل، وإشعال الحروب الداخلية لاستمرار سيطرته واستغلاله للأرض والإنسان، والفنان عبد القادر البخيت ينقل لنا هذه الأشياء عبر رؤية بصرية تختلف عن المفاهيم المغلوطة عن إفريقيا وإنسانها التي نقلها الرجل الرأسمالي الغربي، أنه يحملنا إلي عالم السحر والجمال عبر خطوط وألوان تظهر جمال إفريقيا وإنسانيتها، وليس وحشيتها التي سطرها الرأسمالي من أجل أن يعطي لنفسه الحق فيما يفعل، وإعطانا انطباعا مغايرا يمثل فكره الذي يجعله صاحب فضل في ترويض الوحوش، أن المعاني التي ينطلق منها الفنان تعبر عن البعد الجمالي والإنساني لروح أفريقيا والسودان، وهو في معرضه الأخير بعنوان، (قري نائية )، يحشد في لوحاته ذلك الوهج والجمال في القرية الإفريقية والسودانية بالذات، وفي العنوان تورية، لهذا يلجأ لإدخال عناصر من بيئة ومجتمع القرية السودانية، لإبراز وتأكيد للمعاني التي تدخل في مفردات الحياة، وليست مفاهيم لمعرفة الأشياء، إنثيال للذكريات والمعاني الإنسانية التي يحلق فيها باستخدام مفردات حياتية من صلب حياة القرة السودانية، الطين، نبات الحناء. القرع الذي يشكل أحد الأدوات المهمة في حياة القرية السودانية، كآنية منزلية وآلة موسيقية وحاوية لجمع الحصاد، إنها مفردات لإشارات الارتباط بالرؤية الجمالية المترسخة في الذاكرة، جلود النمور، مفردات لطالما شعرنا بقربها من الروح السودانية، في تتبعنا لوقائع الحياة فيها، إن الفنان عبد القادر البخيت أمينا علي المعاني المتجسدة في لوحاته عبر الذكريات والرؤي الجمالية التي يشتغل عليها كلون أو نص بصيغ تتعامل بحداثة مع ظهر اللوحة، والنص كونه معني وليس مفهوماًً. 

السرد والقصة والرواية ...تتحاور في فضاء الأردن



السرد والقصة والرواية..تتحاور في فضاء الأردن
القص والروي يؤرخان لهامش المدينة

قراءة: مؤيد داود البصام
صدرت ثلاث كتب تهتم بالقصة والرواية والسرد، في العاصمة الأردنية عمان، وهن أعمال المؤتمرات التي أقيمت خلال السنوات الثلاث الأخيرة لدراسة إشكاليات البناء السردي في القصة القصيرة والرواية في الأردن والعالم العربي، والكتب مجموعة البحوث والدراسات والشهادات التي قدمت في المؤتمرات والندوات التي عقدت في العاصمة الأردنية، عمان.
القصة القصيرة
في الوقت الراهن
الكتاب يحتوي أوراق إعمال مؤتمر النقاد الأردنيين الخامس، يقع في 382 صفحة من القطع المتوسط، وهي الأوراق التي قدمت في المؤتمر الخامس لجمعية النقاد الأردنيين، تحرير ومراجعة د.غسان إسماعيل عبد الخالق، وأخذ المحرر بمبدأ التدرج من الفضاء النظري إلي الفضاء التطبيقي. إما الشهادات- وقد بلغ عددها 21 شهادة - فقد قسم الكتاب بعد مقدمة المحرر ورئيس جمعية النقاد الأردنيين فخري صالح إلي ثلاث أقسام، القسم الأول: دراسات ومقالات، وهي مجموع الدراسات التي قدمت من قبل الباحثين إلي المؤتمر عن القصة القصيرة. والقسم الثاني: الشهادات التي ألقيت من قبل الأدباء في المؤتمر، وحسب رأي المحرر تعتبر، " أخطر ما باح به كتاب القصة منذ عقود. ". والقسم الثالث : بيبلوغرافيا القصة القصيرة في الأردن، أعدها نزيه أبو نضال. وكتب المحرر في مقدمته عن مؤتمر جمعية النقاد الأردنيين للقصة القصيرة في الوطن العربي والأوراق التي قدمت فيه، " أستحق كل العناء الذي بذل في سبيل إقامته ثم في سبيل جمع وتحرير وطباعة أوراقه، لثلاثة أسباب وجيهة هي: ندرة المؤتمرات والندوات التي أفردت للقصة القصيرة في الأردن وفي الوطن العربي، مقارنة بما أفرد من مؤتمرات وندوات للرواية والشعر، وتميز معظم الأوراق التي قدمت ضمن هذا المؤتمر..دراسات وشهادات، والضجة التي أثارها الناقد العربي د. عبد الله إبراهيم حينما أعلن أو كاد يعلن موت القصة القصيرة علي مسمع من كتابها ودارسيها.. وهو ما أستدعي جملة من الردود والتعليقات الرافضة لهذا الإعلان أو لمجرد التفكير فيه".

الرواية الأردنية علي مشارف القرن الواحد والعشرين
الكتاب من إصدار جمعية النقاد الأردنيين أيضا ً، وهو أوراق الندوة التي أقامتها الجمعية عام 2008. وجاء في 241 صفحة من القطع المتوسط، وكتب المحرر عبد الله رضوان في المقدمة، "المتابع لتجربة الرواية الأردنية، يتلمس ظاهرة أخري يمكن تسجيلها فيما يتعلق بالمشهد الروائي الأردني،ألا وهي ظهور عدد كبير من التجارب الروائية النسويه، بحيث شهدت نهايات القرن الماضي، وبدايات الراهن حضورا لافتا للمرأة المبدعة في حقل السرد عموما، وفي حقل الرواية علي وجه الخصوص.
وهنا تتقدم مجموعة الروائيات الأردنيات، من أبرزها : سميحة خريس، ليلي الأطرش، رجاء أبو غزاله، رفقه دودين، غصون رحال، كفي ألزعبي، فيروز تميمي، د.سناء شعلان،جميله عمايره.
وبالطبع فإن هذا المشهد المتمثل بحضور المرأة في حقل الرواية يتفق مع ظاهرة عامه عربيه، تتمثل بحضور المرأة، وبروز عدد من الروائيات العربيات في مختلف أقطار الوطن العربي، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة، وهي ظاهرة تستحق الدراسة والمتابعة العلمية.
ونظرا لما حققته الروائية الأردنية من تطور وحضور في السنوات الأخيرة، فقد جاءت ندوة "جمعية النقاد الأردنيين " لإلقاء نظره حول واقع الرواية الأردنية في السنوات الأخيرة، وقد تم في هذه الندوة التعرف علي عدد من التجارب الروائية، لكل من : كفي الزعبي، جمال ناجي، إبراهيم عقرباوي، هاشم غرايبه، حزامه حبايب، ليلي الأطرش، سميحة خريس، عصام الموسي، جميله عمايره، بأقلام أربعة عشر ناقدا أردنيا وذلك عبر تقديم دراسات تطبيقيه، تعالج رؤية وبنية وخطاب مجموعة من رواياتنا الأردنية الصادرة حديثا، وهي خطوة متميزة، تقوم بها "جمعية النقاد" بهدف تعميق دورها في دراسة، وتقييم ومتابعة المنجز الإبداعي الأردني بأجناسه الأدبية المتعددة."


أوراق مختارة من...
ملتقي السرد العربي
الكتاب من منشورات رابطة الكتاب الأردنيين، يقع في 671، صفحة من القطع المتوسط، وبغلاف سميك، قسم الكتاب بعد الكلمات التي ألقيت في المؤتمر والبيان الختامي، إلي تسعة فصول، جاءت بالتوالي الإطار النظري والمرجعيات والتاريخ، وقراءات في الرواية، ومشكلات النوع وقضايا التجنيس، والقصة القصيرة، والسرد النسوي، أعلام ورواد في أ'مال غالب هلسا، وقراءات في أعمال مؤنس الرزاز، وقراءات في أعمال محمود شقير، وأفكار وشهادات ومواقف، نافذة علي السرد العالمي، والفصل التاسع والأخير، وقائع جائزة ملتقي السرد العربي / دورة مؤنس الرزاز.
وقد جاء في مقدمة المحرر "يضم هذا الكتاب مجموعة مختارة من أوراق ملتقي السرد العربي الذي بادرت رابطة الكتاب الأردنيين إلي تنظيمه ابتداء من عام 2008. وذلك استجابة لتعاظم دور السرد وتنوع وجوه الإبداع السردي عالميا وعربيــا إلي جانب التطور المتوهج في النظريات النقدية المهتمة بالسرد. وكذلك تعمق الظاهرة السردية من خلال اهتمام عدد من الفلاسفة والمفكرين بها وبروز ما يسمي بالسر ديات الكبري وانفتاح عالم السرديات علي فضاءات رحبة عابره للأنواع والأجناس والاختصاصات .
ولقد نجحت الرابطة في تنظيم الملتقي في دورتين حملت الأولي اسم الأديب والمفكر الأردني الراحل غالب هلسا وانعقدت بمشاركة ما يزيد علي ستين ناقدا وكاتبا أردنيا وعربيا في الفترة من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. أما الدورة الثانية فانعقدت في الفترة من 3-5 تمــوز (يوليو) 2010. محتفية باسم المبدع الراحل مؤنس الرزاز. وتميزت الدورة الثانية بإضافة جديدة أخري تتمثل في تأسيس جائزة في مجال الإبداع السردي.
ولقد بذلنا الجهد كله في نشر أكبر عدد ممكن من الأبحاث والأوراق والشهادات التي قدمت في الدورتين. واستجبنا لديمقراطية الروح السردية فلم تمنع فكرة لأننا نختلف معها وإنما تصورنا هذا الكتاب علـي هيئة حوار ضمني وأصوات تتأسس علي مبدأ الأصوات السردية وتغتني بلغة الحوار السردي المختلفة". 

أحاديث جعفر العقيلي ...بين المعرفه والذات / حوارات تحت ظلال ألمدينة البيضاء



أحاديث جعفر العقيلي .. بين المعرفة والذات
حوارات تحت ظلال المدينة البيضاء

مؤيد داود البصام
ما قدمه الصحفي والشاعر والقاص جعفر العقيلي، مثالا علي الجهد الدأب، الذي يعبر عن جدية واهتمام بالمنجز الفكري للآخر عبر كتابين هما، (في الطريق إليهم وأفق التجربة )، الصادران في العاصمة الأردنية عمان بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، ويتضمنان حوارات جادة مع نخبة من المثقفين والمفكرين الذين عرفوا بحراكهم الثقافي والإبداعي في الساحة العربية والأردنية، وهي خيارات في المرتبة الأولي منتقاة لنخبة لها حضورها وهنا أهمية الكتابين، فعند مطالعة الأسماء نشعر بهذا الهاجس الذي يضعنا فيه الكاتب، بأننا نلتقي مع أراء وأفكار لأشخاص،..لهم وزنهم الفكري والثقافي في الساحة العربية والعالمية، قرأنا لهم وعايشنا إبداعاتهم ولكنهم لم يبوحوا بما يفتح أفاق الاكتشاف، و جعل الأسئلة تفرض الإجابة عليها أن لم تكن تحليلا لما قدمه المبدع من أبداع ، فهي كشف لجوانب خفية لم تكتب سابقا ً التي صاغت هذا الإبداع، أن كان ذاتي أو موضوعي، وهو ما يشير إلي أن المحاورات كانت قصدية إلي جانب معرفيتها، ولم تقدم حوارا صحفيا لملئ الصفحات كما تعودنا في العديد من مثل هذه الحوارات، ولكنه يحاور من موقع العارف الدارس، ليس لنتاج الشخص وحسب وإنما في الكثير من جوانب حياته، والحراك الثقافي الذي واكب إبداعه، مما يجعله يجر المتحدث للإفصاح عن مكنونات ذاتية لم يتطرق إليها لا في كتاباته ولا في عموم حياته الظاهرة للآخر.

أسماء لها أشارة في الطريق
عندما ننظر إلي الأسماء التي حاورها في كتابه الأول، والذي صدر باسم (في الطريق إليهم )، فان الاختيار واضح، د. أنور الزعبي، خليل السواحري، سعود قبيلات، سلمي الخضراء الجيوسي، د. شكري عزيز ماضي، د.عبد الرحيم مراشده، عدي مدانات، د. عز الدين المناصرة، فايز محمود، ليلي الأطرش، محمود الريماوي، محمود فضيل التل، د. ناصر الدين الأسد، هاشم غرايبه، د. هند أبو الشعر، يوسف ضمره. وعلي الرغم من أنهم ينتمون إلي منطقة جغرافية واحدة هي الأردن وفلسطين، إلا إن لكل واحد من هؤلاء بصمة في الثقافة الأردنية والعربية عموما وحتي في عالمية الموقف، كما في حواره مع سلمي الخضراء الجيوسي، الناقدة والباحثة، التي بذلت جهدا استثنائيا ًمن أجل تعريف الحضارة العربية والإسلامية والأدب العربي للمتلقي العالمي، وآرائها في تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر، وهو في حواراته يتحول مع الذين يحاورهم في مساجلاته بين القضايا الشخصية والعامة، وهو ما ينطبق علي الجهد الذي بذله الشاعر أولا والناقد عز الدين المناصرة الذي كتب وناقش قضايا مهمة في الثقافة العربية وفي شعر المقاومة العربية، وكتب تنظير في قصيدة النثر، وكذلك حواره مع ناصر الدين الأسد، المبدع الذي ترك بصمة واضحة في الساحة الثقافية الأردنية والعربية، وهو ما يوضح الاختيار في انتقاء الشخصيات الإبداعية التي يحاورها، فهو لم يترك جنسا من أجناس الأدب إلا وتناوله، في الثقافة والفلسفة والشعر والقصة والرواية والنقد، ليضع شمولية الطرح، وسياحة في دروب الإبداع.

أفق التجربة والتطور ...
عندما نستعرض ما قدمه جعفر العقيلي ذلك الشاب الطموح الذي هجر كتابة الشعر والقصة لفترة علي صعيد النشر المتواصل، بعد أن اصدر مجموعته الشعرية الأولي، (للنار طقوس وللرماد طقوس أخري )، عام 1995. ثم مجموعته القصصية، (ضيوف ثقال الظل )، عام 2002. وكرس وقته وجهده لأنشطة ثقافية أخري وأهمها الصحافة الثقافية، لكن عند قراءة الحوارات يتوضح لنا أنه لم يهمل المتابعة الفكرية والأدبية لكل مبدع، وهي عكس الصورة التي شاعت إذ استهلكت انشغالات الصحافة عن المتابعة، وهذه مسألة أخذت الكثير من المبدعين، عندما أهملوا المتابعة الجدية والانحياز للسهولة والنجاحات السريعة، ولكن جعفر وكما يظهر من الأسئلة ظل متابعا وقارئا مجدا ً وهو ما تظهره لنا الحوارات في كتابه الأول ، ومن ثم ما ظهر في كتابه الثاني، (أفق التجربة، حوارات عربية في الأدب والفكر والفن)، وفي فترة متقاربة لصدور الكتاب الثاني، يخرج لنا مجموعته القصصية (ربيع في عمان ) عام 2011، وفي كتابه الثاني (أفق التجربة ) نجد هذا التطور الفني في الإخراج وفي البناء الفكري للحوارات فإذا كان الكتاب الأول كرس إلي منطقة جغرافية في الأدب العربي فانه في الكتاب الثاني يختار محاوريه من عموم الوطن العربي باختيارات مدروسة، وإذا كان الكتاب الأول جهدا ً للحوار حول ما قدمه المبدعون من أبداع، وآرائهم في عموم الإبداع، فهو في كتابه الثاني يجعل الحوار سجالا بين المتحاورين من دون أن يجلسهم مع بعضهم، وإذا خلي الكتاب الأول من أي حوار مع فنان تشكيلي، فانه يستدرك في كتابه الأخير ليضع حوار مع الفنانة آمنة ألنصيري من اليمن وعبد الحميد ألعروسي الفنان التشكيلي الجزائري، ويضيف في هذا الكتاب تعريفا ً وسيرة حياة كل مبدع في البداية قبل المحاورة، ولها أهمية أنها تفصح عمن تطالعه قبل أن تلتقي به، بينما وضعها في نهاية الحوار في كتابه الأول، وفي كتاب (أفق التجربة ) ينتقل إلي وحدة الموضوع، فهو بانتقائه محاوريه يختار نقاط الاختلاف والاتفاق فيما بين المتحاورين، فينتقي سؤالا ً يشكل محورا ً، ليدلي كل محاور برأيه في الاتفاق والاختلاف، ويترك استخلاص الرأي الأخير للمتلقي، وهي أسئلة وضعت بوعي وفهم لطبيعة الساحة الثقافية العربية وما يحتدم فيها من صراعات فكرية، فالجدال الذي مضي عليه أكثر من نصف قرن في الساحة الثقافية العربية، عن(قصيدة النثر)، شكل محورا ً في الحوار مع الشاعر أدونيس، ومن ثم رأيه بما جاء في رأي د. سلمي الخضراء الجيوسي ود. سيار الجميل في إعماله، أو ما يطرح من إشكالات في شعره وكتاباته وحياته، لينتقل بالسؤال عن قصيدة النثر إلي الشاعر بول شاؤول، ويضع إمامه فيما يراه عز الدين المناصرة من تنطيرات في قصيدة النثر، ثم يشرك أكثر من مبدع في السؤال، كما جاء في رأي الشاعر والناقد السوري حسين حموي حول هذه القضية، التي تناقضه الشاعرة الجزائرية نصيرة محمدي في بعض أطروحاته وتتفق في أخري، وهكذا نجد أنه يتحرك في المحور الذي يريد الإجابة لأكثر من رأي من دون أن يضع الآخر مسبقا ً بتواصل الفكرة عند متقابلة، وهكذا نتواصل مع أسئلة في عدة محاور مع الشخص الواحد ومع آخرين يشاركونه نفس الحراك.. محور الرواية التي قيل أنها أصبحت (ديوان العرب)، وما هو رأي الروائيين والنقاد العرب بذلك، يضعه أمام لطفيه الدليمي من العراق وكذلك تداخل الأجناس وقضية الأستشراق وقضية التمويل الأجنبي هذه القضية المهمة التي يناقشها بين وجهة نظر الناقد والمسرحي نادر القنة من الكويت والغوثي بن ددوش السينمائي الجزائري، أن كتاب أفق التجربة بما يحمله من أسماء، أدونيس، رضوان السيد، عبد الكريم برشيد، رضوي عاشور، علوي الهاشمي، محمد عبد الله الجعيدي، لطفيه الدليمي، طالب الرفاعي، بول شاؤول، الغوثي بن ددوش، محمد خرماش، حسين حموي، نادر القنة، أحمد العواضي، روضة الحاج، عبد الحميد ألعروسي، آمنة ألنصيري، عمر عبيد غباش، نصيرة محمدي، عادل ألجريدي، ومحمد الصفراني. يشكل إضافة نوعية للمكتبة العربية بما يكمن في ثناياه من آراء نقدية ووجهات نظر فكرية تمس الحراك الثقافي في الوطن العربي عموما، وغوص في تجارب أسماء لها حضورها علي الصعيد المحلي لبلدانها وعلي صعيد الوطن العربي عموما، وتكمن أهمية الكتابين أنهما يشكلان المحاور التي تشتبك فيها الساحة الثقافية العربية، والاختلافات والاتفاقات حول الظواهر التي ظهرت وسكنت أو التي لها حضورها الآني، وما زالت تشكل بؤرة الاحتدام بين الرفض والقبول، أن القيمة المعرفية التي يقدمها الكتابان، بتعدد القضايا التي ناقشاها يمثل ما يشبه خارطة للثقافة العربية، وضعتا تجارب وآراء مجموعة لها فاعليتها ليس علي الصعيد المحلي والعربي، وإنما علي الصعيد العالمي أيضا ً. 

ألمشاعر الطفوليه تحرك فرشاة أحمد نعواش



المشاعر الطفولية تحرك فرشاة أحمد نعواش
أنامل غضة ترسم مرح الصغار

مؤيد داود البصام
الفنان أحمد نعواش من أوائل الفنانين الأردنيين الذين اختطوا لأنفسهم طريقا وعرا ليثبتوا وجودهم في الحركة التشكيلية الأردنية والعربية، تميز أسلوبه بالبساطة والعفوية، وقد اتسمت أعماله بالرؤية التي حملها معه منذ طرد من أرضه، فقد ولد في مدينة عين كارم بالقرب من مدينة القدس عام 1934، وغادر موطنه قسرا ً عام 1948، عندما احتل الصهاينة أكثر من نصف فلسطين 56% بقرار الأمم المتحدة الجائر بالتقسيم، وطرد شعب من موطنه وأرضه لصالح مجموعة الفلسطينيين من الديانة اليهودية والمهاجرون الأجانب من بلدان العالم من الديانة اليهودية أيضا ً، والذين يمثلون 17% من مكون الشعب بكامله، في ديار الغربة استطاع أن يحصل علي دبلوم كلية الفنون الجميلة من العاصمة الايطالية روما عام 1964، ثم حصل علي الدبلوم العالي بدرجة امتياز عام 1970، في الحفر علي الحجر( الليثوغراف ) وعلي الزنك من كلية الفنون الجميلة من مدينة بوردو الفرنسية، وعام 1980 علي دورة في ترميم اللوحات الزيتية وترميم السيراميك من مدينة فلورنسا الايطالية. وحصل علي الميدالية الذهبية من المعرض الكويتي السابع عام 1981. ثم جائزة الدولة التقديرية في حقل الفنون الجميلة (الرسم ) عام 1990.
لم يكن الجمهور قبل خمسة عقود، عندما عرض الفنان أحمد نعواش لوحاته التشكيلية في عمان عاصمة المملكة الأردنية، الذي أثار الدهشة والتساؤل، أن يري الكبار ترسم بأنامل ورؤي الصغار، فتداخلت رسومه الطفولية بدهشة صانعها مع دهشة الجمهور، ولم يدرك إلا القليل سر الإبداع الكامن في دخيلة من يتمكن استرجاع الزمن ويعيد صياغته بمفارقة عجيبة، فيظهر الأشكال بمنظور البراءة والدهشة علي أسس جمالية مفعمة بروح الطفولة وأبجدية رؤيتها للعالم، كما هي قدرة من يشد انتباه الأطفال حين يقص أو يكتب لهم قصة، ولعل السؤال المهم الذي ليس من السهل الإجابة عليه حتي من الذين استطاعوا أن يقدموا إبداعهم ويستحوذوا علي إعجاب وانتباه الأطفال، كيف تمكنوا من استرجاع لحظات من الزمن الماضي وبهذا العمق من العقل الباطن، إلي الزمن الحاضر؟ والأكثر كيف كيفوا طبيعتهم وعقليتهم للعودة إلي الطفولة، بإلغاء مستوي الوعي المترسب عبر السنين من المعرفة والتجربة، ليعطوا سر الاكتشاف الطفو لي للأشياء بما تحمله من دهشة وتعجب؟، كدهشة وتعجب الفيلسوف أمام الظواهر، ولعلنا نتذكر جداتنا وروعة قصهم للحكايات وانشدادنا فاغري ألأفواه نتلقف الكلمات المعجونة بالسحر والدهشة، التي تأتينا من أفواههن بلغة بسيطة هادئة سلسة، وأصابعهن مغروزة في فرو رؤوسنا، وهن يقصصن بكل حنان حكاياتهن علينا، بينما نتمرد علي الآخرين عندما يجلسونا ليقصوا أو يتحدثوا إلينا، ولعل مرد هذا إلي أن الإنسان عندما يصل إلي مرحلة من العمر يبدأ في عملية امتلاك قدرة الحلول التي توصله إلي تمثل البساطة والبراءة والطفولة، أو هذا هو السر الإبداعي الذي يتميز به بعضنا عن البعض الآخر، فكم من السنين نحتاج للوصول إلي هذه اللحظة؟، التي استطاع الفنان أحمد نعواش أن يصل إليها منذ شبابه، علي مر الزمن الذي اشتغل عليه وما زال، هذه الرؤيا تحركت ضمن فهم ووعي يخص فلسفته في الحياة والواقع ورؤاه للقيم الجمالية، وهو الوحيد الذي يمكنه الإجابة عن البعد الفلسفي الذي يكمن خلف هذا الإبداع، لأنه لا يرسم أو يكتب للأطفال وإنما للكبار، ومن هنا تأتي المفارقة التي تجعل القضية تتداخل في أعماقها ولا يستطيع أن يفسرها إلا صاحبها، وكما تحدث لنا الفنان الاسباني خوان ميرو، عن أسس فنه الذي يتقارب معه الفنان احمد نعواش في الرؤية والأسلوب وبناء اللوحة، إن خوان ميرو كان عاشقا ً ومحبا ً للفن الشعبي الاسباني، إذ يقول: " كان علي الدوام يسحرني، إذ لا توجد فيه المساحيق التجميلية ولا الخداع والرياء والانفعال المزيف، إنه يتجه مباشرة نحو القلب وبمحبة كبيرة " . وإذا أمعنا النظر في حياة الفنان احمد نعواش علي ضوء حديث خوان ميرو سنجد أن الجاذبية التي تركزت علي البراءة والعفوية في شخصية نعواش، وهذا الحب للبساطة وهدوء الشخصية وجنوحها للصمت والعزلة، وهو نسق ونهج حياة، ومن هنا يمكن المقارنة في تأثر نعواش كما هو قد صرح بإعمال بول كلي، ففيها تطابق أو تشابه بين حياة كلي الصامتة والانعزالية وحبه للأرض والطبيعة، وبين حياة نعواش في علاقته المتشابكة في حميمية الالتصاق بحب الأرض والناس البسطاء، مع الحنين والشوق وسط قساوة الغربة التي حملتها معاناة البعد عن الوطن وذكريات الطفولة.
مرجعياته التقنية...
إذ أردنا البحث عن مكامن المؤثرات في أسلوب وتقنية احمد نعواش فإننا لا نقف عند محطة واحدة، لتوضح لنا أبعاد اشتغالاته، وهو ما تدلنا عليه الصورة الأولي التي وضعنا فيها هذا الخيال الجامح والواسع والشخصي بتفرد، في إطار من الجرأة وإيجاد لغة جديدة ينميها باستخدام ألوان حرة، تكسر القواعد اللونية والخطية، ولعل دراسته الحفر علي الحجر( الليثوغرافي) في كلية الفنون الجميلة في بوردو- فرنسا، قد أثرت بشكل وآخر في تعامله مع اللوحة، فاللوحة في مفهوم الفنان احمد نعواش، مادة لإعادة صياغة الحياة برؤية تستمد من الواقع وتخالفه، فهو يشرحها ويفككها ثم يعيد تكوينها بالصيغة التي تتشكل بها رؤاه الجمالية وما يكمن في تفسيره لحركة الحياة اليومية والواقع، قد يكون الفنان خوان ميرو رمز الأعمال الفنية الطفولية البريئة في الحركة التشكيلية العالمية، وأحد الذين أثروا في أحمد نعواش، كما أثر بول كلي بصورة مباشرة، ليصل من خلال التوافق الذي حكم رؤية الفنان (ميرو) وانعزالية (كلي) للتأمل، وفي حب الناس والطبيعة والإنسان البسيط الخالي من تعقيدات الحضارة وضجيج المدن، والتوق إلي منابع الروح التي تتلبس تهجد نعواش في تمجيد الإنسان الفلسطيني وحياته، ضمن الأفق الذي يرسخ هذا الإخلاص للإنسان والأرض ولكن برؤية حداثوية، فتجريدية نعواش مستلة من الواقع، يتحرك فيها ضمن أفق البناء التكعيبي لكنه يرسخ في نصه الرمزية كنص مع المسحة التعبيرية التي تتجسد في اللوحة، لهذا لا مركزية للوحة نعواش، فالكتل تتوزع عبر فضاء لا محدود، يزج فيها بين اللوحة السريالية والدادائية، فهو يرسم بروح السريالية ولكنه يخرج علي قواعدها التي تلتزم الأسس الأكاديمية في مركزية بناء اللوحة إلي عبثية الدادائية، وهو أسلوب الطفل في تخطيطه علي الورق، الرؤية لديه عامة شاملة، تحيط بكل شئ، وتنظر لما وراء الأشياء، وكما سبق القول ليس هناك مركزية للوحة نعواش، فالرؤية البصرية لا تتحدد بالبؤرة وإنما مساحة اللوحة تحدد شمولية الرؤية البصرية للإحاطة بالنص، فأشكاله البالغة التجريد بلغة سردية تستمد وجودها من الواقع علي الرغم من عدم واقعيتها، أطفال يلعبون الحجلة، صغار يتشابكون ، حيوانات ، خطوط تلتصق ببعضها لتلغي تحديد الشخصيات، العاب شعبية، عائلة متشابكة، أشياء لا معقولة ولكنها واقعية .
تطور المراحل.. خطا ً ولونا ً .
إن الأعمال التي قدمها الفنان احمد نعواش خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تتوافق في إطار بناء اللوحة هندسيا من حيث التشكيل الخطي وبنائها العام، إلا أنها تختلف في تطورها في اللون والخط في العقدين الأخيرين، (ففي صحيفة الرأي الأردنية أوائل عقد السبعينيات من القرن الماضي)، كتبت مقالا ً عن الفنان أحمد نعواش، وناقشت من ضمن الأشياء التي ناقشتها وقت ذاك التقنية اللونية في أعماله المعروضة، فهو وأن صرح كما سبق القول، بأنه متأثر بإعمال بول كلي ألا إننا نجد ذلك الفرق بين ألوان بول كلي الصافية والنقية، وبين إعمال أحمد نعواش في ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، فاغلب اللوحات قد أتسمت بالألوان الضبابية، والخلفيات ألوانها ضبابية وألوانه غير نقية، و تفتقد شفافية الألوان التي تتسم بها رسوم الأطفال وإعمال بول كلي وميرو وكاندنسكي، وهذا يعني الوعي بمدركات العمل الذي يتناقض مع السمة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة لوحته وهي العفوية والدهشة الطفولية، ولكننا عندما نقف علي إعماله اللاحقة في العقدين الأخيرين بنهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، سنجد تطورا ً كبيرا ً في الرؤية البصرية لبناء اللوحة العام من حيث تقنية اللون والخط والتوازن الذي يحكمها، فقد طور أسلوبه نحو بناء سردي للوحة فيها مشاهد وحكايات، تنزاح بالتجريد والمسطحات اللونية الشفافة التي توضح لنا مدي ما وصل له من احترافية في هذا النهج، بمحاولة استعادة لحظات النشوة الطفولية، والغور في العقل الباطن، مما يجعل الرؤية البصرية تتحرك ضمن الفضاء الكلي لتشكيلات الرسوم الخيالية بفنتازيات غير واقعية، متخذا من أحلام وخيال الطفولة البعد الاستلهامي للأشكال والصور الساذجة والبسيطة والفرح الطفولي، وهي في هيامها تنفصل عن كل قوانين الواقع وتفصيلاته، إنه الحلم السريالي الذي يتميز ببساطة ساحرة أو البراءة المنظمة للطفولة، عندما يجمح خيالها بأبعاد يعجز الكبار عن التحليق وإلا يهام، لهذا نجد إن أعماله الأخيرة تتساوق مع الإنشاء الذي استمر علي تقديمه علي مدي هذه العقود بألوان تتصف بالموسيقية والانسجام وبتردد إيقاعي يوضح مدي الإبداع الذي وصل إليه عند اجتماع الخبرة والتقنية، فخطوطه مفعمة بالحياة وفيها تعبيرية عالية، وتهيمن عليها روح البعد الرمزي عبر توزيع الكتل بلا حدود في فضاء اللوحة، مع هذه الفطرية والتبسيطية المدهشة.
الحساسية اللونية وصلابة الخط..
إذا وقفنا للمقارنة بين العقود المتقدمة وبين العقدين الأخيرين إلي أعمال الفنان احمد نعواش، سنخرج من العالم المشوش والمبهم الذي طبع أعماله علي مدار ثلاثة عقود منذ بدايته في ستينيات القرن الماضي، في المساحات اللونية المتداخلة وليونة الخطوط التي لا توضحها إلا الكتل اللونية والتي لا تتضح معالمها في الإنشاء، والتشخيص غير واضح المعالم وتفتقد لوجود الخطوط كحدود توضح التشخيص، إذا كانت علي صعيد البورتريت، (إذا أخذنا بعض الأشكال للوجوه في لوحاته علي اعتبار أنها تمثل بورتريت لشخص ما)، أو الأشكال المكتملة الأجسام كتشخيص، (fuggier ) ، فانه في العقدين الأخيرين ينقلنا إلي عالم جديد ومتغير في رسوماته، إذ توضحن ملامح شخوصه، وتميزها هذه البساطة الساحرة، وإشعاع الالون النقية، والخطوط الواضحة التي تحدد الشخوص، والخلفيات المدروسة لونيا ً علي الرغم من عفويتها، إن أعماله ما بعد الألفية الثانية فيها هذا الصفاء اللوني وقوة الخط وصلابته وتناسق الألوان وانسيابيتها الموسيقية، وتعبيرية الأداء بلغة فنية مختلفة، توحي إلي بعد درامي، يمزج بين الواقع والمخيال، وحركة الشخوص فيها هذه السمة التعبيرية، بألوان وخطوط منسابة بعفوية وبإتقان الصانع لوضع قيما جمالية معاصرة، مع وضوح في مزج غريب للعناصر المتوافقة بين الرسم والنحت، وكأنها اسكيتشات لأعمال نحتية، وتحمل دلائل ومعاني من حياة الناس العاديين، انه يرسم بين عالم اليقظة والحلم، رسومه أساسا ً مبنية علي السخرية من الواقع ولكنه يسردها بجدية، فيها نكهة المرارة والتمرد.

أيام وذكريات عبد الأمير الحصيري وجواد سليم والقصيده



أيام وذكريات عبد الأمير الحصيري وجواد سليم والقصيدة
روح تواقة من زمن غض

مؤيد داود البصام
في العقد الستيني من القرن الماضي، اندلعت حركة ثورية في مختلف إنحاء العالم، صاحبت التطورات الهائلة في العلوم المعرفية والتكنولوجيا وتقنيات الاتصالات والمواصلات، وقد شكل جزؤها الأكبر الطلبة وفئة المثقفين، وكان الفضاء الثقافي العراقي، هو واحد من هذه الفضاءات التي تحرك بفورة ثقافية جاءت مخاض من كبت الحريات، وفرض الرأي الواحد، ولو بإشكال مختلفة فتارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار، ففي هذه الانتفاضة التقت الاتجاهات السياسية والمعرفية علي رأي واحد، وهو لابد من التغيير، وإيجاد البديل الحضاري للأرتقاء بالانسان والوطن، وفي وسط هذا الاهتمام. كانت تلتئم حركات فنية وأدبية وسياسية لتنتج عبر أفكار تجريبية إبداعات عظيمة، ما زالت ثمارها تؤطر المشهد الثقافي العراقي حتي ألان . وكنا مجموعة من ضمن مجموعات الوسط الثقافي العراقي آنذاك، يختلط فيها كل الاتجاهات الفكرية والسياسية، يغلب عليها الطابع اليساري، المحكوم بالرؤية الماركسية لتحليل الواقع، وقد دأبت هذه المجموعات علي التواجد مستوطنة مقاهي باب المعظم ما بعد ساحة الميدان. مقهي عارف أغا والزهاوي وحسن عجمي والبرلمان، بعد أن اغلقت مقهي البلدية في ساحة الميدان التي كانت تجمع الجميع علي اختلاف مشاربهم، يزحف لهن منذ الصباح الباكر قسم من الادباء والفنانين أمثال الشاعر عبد الأمير الحصيري، والبقية تأتي تباعاً من الساعة الثانية عشر ظهراً حتي الرابعة والخامسة ما بعد العصر. لتبدأ مسيرة ثانية من جديد إلي شارع أبي نؤاس علي ضفة دجلة، وفي الساعات المتاخرة تنتهي ليلتهم النؤاسية، وبعد هزيمة حزيران عام 1967، اهتزت المشاعر، وأحدثت قناعات وآراء من ابعد نقطة للأمل إلي أقصي نقطة في الخيبة والسوداوية، كانت القوي السياسية قد خرجت من تجربة حركة 14 رمضان الدموية، لتبدأ مرحلة حكم الرئيس عبد الرحمن عارف الذي جاء بروح التسامح والانفتاح، مما جعل الكثير من القوي السياسية مراجعة وتقييم مرحلة الاقتتال التي جاءت بعد حركة 14 تموز 1958، وهو الأمر الذي انعكس علي الادباء والفنانين والمثقفين بشكل عام ليبداوا مرحلة جديدة في العلاقات والانفتاح علي افكار التجديد والحداثة، كنا وقتها نحاول لم شتاتنا، لإيجاد واقع يحقق لنا أفكارنا وآمالنا وطوباويتنا، وتثبيت هذه الأفكار علي ارض الواقع، وقد اجتهد كل بطريقته وحسب رؤاه خصوصاً وان هذه الفترة جمعت اهتزازات كبيرة بين المثقفين والأحزاب السياسية علي الساحة والأنظمة الحاكمة، وقد أخذت كتابات جهينة التي كان يحررها الصديق الكاتب جليل عطيه تشحن الشارع، وفي شارع الرشيد بين شارع المتنبي وساحة الرصافي الان كانت هناك مقهي يترك صاحب المقهي الجرائد ليقراها رواد المقهي مجانا، ووقتها قامت الدنيا من قبل اصحاب الجرائد علي صاحب المقهي، وكان اسم المقهي النصر، علي أسم جريدة النصر التي كانت حاملة شعلة التغيير والثورية، واكثر محرريها من اليسار امثال مؤيد الراوي وآخرون، وهي تكتب المقالات النارية، وفي وقتها قمنا بتأسيس مجمع ثقافي لكل الفنون والآداب سمي (مؤسسة البصام للثقافة والسينما والمسرح ) أصدرنا من خلاله مجلة باسم (الفنون المعاصرة)، كنت رئيس المؤسسة ورئيس تحرير المجلة، وقدمنا عبر تلفزيون بغداد عدة تمثيليات عن القضية الفلسطينية باسم (فرقة مسرح المجددين) التابعة للمؤسسة، مثل فيها المبدعين فاضل خليل ولطيف ياسين نزار السامرائي فاضل السوداني والمرحومين كاظم ألخالدي وعبد الله ألجواهري وآخرون. ومن أفكارنا التي حاولنا زرعها وثبتناه في منهاج المؤسسة، إن نعطي للمبدع العراقي دوره ومكانته وتعزيزالصلة بينه وبين المتلقي والجماهير، فقمنا بأول خطوة وهي إقامة احتفال بذكري رحيل جواد سليم، فنان الشعب لأجل إن نعرف بسطاء الناس بصاحب النصب الخالد في ساحة التحرير في الباب الشرقي، وطلبنا من تلاميذ وأصدقاء جواد المساهمة في هذه الذكري، فلم يلب إلا العدد القليل من الفنانين متذرعين بشتي الحجج، ومنها من هو جواد حتي نقيم له مثل هذا الاحتفال، هو فنان مثل الآخرين، وقسم قال هذا شيوعي مثلكم فاحتفلوا به انتم، وكثير من الذين وقفوا يكتبون ويصرخون بعد ذلك متفننين بفن جواد وعلاقاتهم به هم من وقف ضدنا وسخر منا، وقالوا ما لنا وما له، ولكن كل ما قوبلنا به لم يفت في عضدنا .وقمنا بالتحضير لإقامة الاحتفال في قاعة الشعب في باب المعظم، وواجهتنا مشكلة إن قاعة الشعب إيجارها في اليوم الواحد ثلاثون ديناراً وهو مبلغ كبير في عقد الستينيات من القرن الماضي خصوصا ونحن ملكيتنا ثقافتنا وكتبنا التي لم تطبع ورسومنا التي لم تعرض ومسرحياتنا التي ترتقي خشبة المسرح، وذهبت وقتها إلي الدكتور مالك دوهان الحسن وزير الثقافة وقتها، وشرحت له الأمر، وللحقيقة كان رجل متفاعلاً وحاول قدر استطاعته وهو في هذا المركز تسهيل وحل مشكلات الأدباء والفنانين، فاتصل بأمين العاصمة المرحوم مدحت سري وطلب منه إن يساعدنا، وذهبت إلي أمين العاصمة وحاول تسهيل الأمر، بان جعل المبلغ خمسة دنانير فقط .أقمنا الاحتفال وحضره بدلا عن وزير الثقافة الذي كان خارج بغداد مدير عام الإذاعة والتلفزيون (مثني الطبقجلي) آنذاك وامتلأت القاعة بمحبي جواد من الأدباء أكثر من الفنانين والقي المرحوم عبد الأمير الحصيري قصيدته الرائعة، وعلي الرغم من طولها كان الجمهور يطلب منه إعادة الأبيات .الآن بعد ستة وثلاثين سنة، أقيم احتفال للفنان جواد سليم من قبل وزارة الثقافة، بعد احتلال العراق، وقد تساءلت مع نفسي، لماذا لم نقم بأي احتفال له خلال تلك السنين، هل كانت السلطة السابقة ستمنعنا فعلاً ؟ أو تحول دون قيام مثل هذا الاحتفال، لجواد أو لإسماعيل أو لكاظم حيدر وغيرهم، أم إننا كنا نلهث وراء ذواتنا، ونبني أمجادا لأنفسنا، فنسينا روادنا وفنانينا وأدباءنا ومبدعينا ؟ أم شغلنا الهم السياسي في الداخل وفي المهجر عن هذه الأمور، أم ماذا ؟

ملحمة تقابل ملحمة
إن قصيدة عبد الأمير الحصيري ملحمة (يا باسل الحزن) مقترنة بملحمة جواد سليم وعظمة إعماله، فهي ليست قصيدة عادية، ولم تأت عادية لأنها كتبت عن شيء غير عادي، رافقت عبد الأمير منذ لحظة بدأ أول حرف خطه (لباسل الحزن ) حتي آخر حرف فيها، وكان لابد من اتخاذ إجراءات لتغيير بوهيمية عبد الأمير، فعبد الأمير لا يفارق الخمر ولا الخمر يفارقه، وعندما يشرب يخرج بعبع من داخله لا يهمه كبيرا أو صغيراً فما في عقله وقلبه علي لسانه، ولا يأبه لخطر وتتملكه شجاعة نادرة لا يملكها أشجع الشجعان، ولان الاحتفال سيحضره الوزير وشخصيات من غير الوسط الفني والأدبي، لهذا منعته من شرب الخمر قبل الاحتفال بثلاثة أيام، ومن روعة عبد الامير أنه كان يشعر بان ليس هناك من يدانيه في قامة الشعر، لهذا تراه متمردا مشاكسا، ولكنه يكون كالحمل الوديع عندما يعرف ان الشخص الذي امامه صديقه ويحب له الخير، فلم يعترض علي كل أجراءاتنا، أرسلته مع الفنان فاضل خليل والمرحومين كاظم ألخالدي وعبد الله حسن إلي حمام عدنان في شارع الرشيد، واشترينا له بدله من محلات الملابس في سوق الهرج عند ساحة الميدان، بسبعمائة وخمسين فلسا ً، وكان مقر المؤسسة علي سطح مقهي عارف أغا، وأجلسنا عبد الأمير علي كرسي وإمامه الطاولة، ومنعنا أي شخص من الحديث معه، فقد لازمه الفنان فاضل خليل ليسكته ويسكت الآخرين حتي يكمل القصيدة. وفي باب المقهي كان بائع مشويات (المعلاك) يحمل صينية بين وقت وأخر إلي عبد الأمير، وجلس عبد الأمير من الصباح يكتب في القصيدة وانتهي منها عصرا ليقراها قبل إن ينقلها من المسودة إلي شكلها النهائي، ونحن بين مصدق ومكذب في نشوة نصفق ونرقص طربا لما إجادته قريحة هذا العبقري .

عبد الامير الطفل الكبير
عبد الأمير الحصيري، هذا الإنسان المغبون المنسي ، الذي عرفته وصاحبته، خلال ستينيات القرن الماضي، وجمعتنا صداقة، تخللتها فترات جفوت وخصام لتصرفات عبد الامير التي لا يحكمها ضابط، فهو خليط من الامزجة المتعددة والمجتمعة في شخص واحد، وهذا هو سر عبقريته، قلة من كان يدرك جوهره، فهو ذلك الطفل في هيئة رجل، قلب شفاف صافي، وعقل راجح، يملك من المعرفة بقدر معرفته مسالك ودروب الشعر، لقد شرب الشعر والشعر شربه، حتي أضحي جزء منه والشعر جزء من عبد الأمير، وكان فلته من فلتات الدهر، فقد حفظ شعر الاولين منذ عصر ما قبل الاسلام والعصور التي تلته، وقرأ كتب التراث والتاريخ العربي والاسلامي والعراقي، وهذا ما تجده من شواهد في شعره، فلم يحتمل المجتمع مثل هذه الفلتات، لغلبة التخلف علي التحضر، لهذا لم يكن المجتمع مستعدا لتقبل مثل هؤلاء الأشخاص، وقد أدرك عبد الأمير هذه الحقيقة لهذا انغمر في شرب الخمر، كما حدث لآخرين قبله، وقد تساءلت كثيرا في السنين الماضية، هل من الممكن إن يكون هذا الغبن لهذه الأسماء المهمة، هو حداثة رحيلها من بيننا، وقد تظهر بعد فترة زمنية، ولكن الزمن يمضي ولا أجد من بينهم من يهتم كثيراً بتكريم هؤلاء أو يذكر هؤلاء المبدعين، الذين ضحوا بكل شيء من اجل الثقافة، وقسم منهم اختلط في تفانيه حب الوطن وقضاياه الوطنية مع حبه للآداب والفن، فلاقي الكثير من الغبن علي يد السلطات أو في الحياة الاجتماعية أمثال سليمان غزاله وأنور شاوؤل، محمد توفيق وردي، مصطفي نريمان، مصطفي جمال الدين والقائمة تطول، وهذا ما يجعلني في بعض الأحيان أفكر، إن الأنانية والتخلف وراء المعضلة في عدم الوعي بأهمية منجز هؤلاء العظام ، وبعض الأحيان أردها إلي إن مجتمعنا يخلو من الارستقراطي والرأسمالي المثقف، والذي لديه استعداد للتضحية بجزء من ماله لأجل حبه للفن والآداب، كما حدث ويحدث في الغرب ولكن يردني في هذه المسألة، إن كثيراً من الأصدقاء المبدعين، وصلوا إلي مناصب رفيعة في الدولة العراقية، ولكنهم التفتوا إلي أنفسهم وعائلاتهم وقبائلهم وأحزابهم ولم يلتفتوا إلي الآخرين، وبالتالي قد تكون الأفكار السوداوية هي الصحيحة علي هذا الأساس (الأنانية، والأنانية المفرطة).
وهذا يذكرني بحادثة تكشف إن النفوس الطيبة،حال ما يسعها الحال، تعبر عن جوهرها،فقد عدت في زيارة لبغداد من الأردن، عندما كنت مقاتلا في صفوف حركة المقاومة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، استقبلني عبد الأمير بفرح وجرني إلي مطعم شريف وحداد في رأس جسر الأحرار من جهة شارع الرشيد، وقلت له : عبد الأمير ما عدت اشرب، إنا ألان قد هداني الله واصلي وأقوم بكل الفروض، فالتفت إلي عامل المطعم، وقال له : هات نفر كباب وقوزي علي تمن ونفر كص علي تمن، فصرخت به، عبد الأمير نحن اثنان وليس عشرة،فقال بحماس : لا تهتم لدي نقود، واقبض راتب (لعد اشلون أوفيك مال السنين الماضية ) فقلت له ضاحكاً : تموتني بالأكل وتخلص مني .. هذه الحادثة، توضح مدي طيبة وكرم عبد الأمير، وشفافية روحه وبساطة خلقه، فلم ينسي الايام التي كنت اصرف فيها عليه، أو عندما حاولت ان اجعله يخفف من الشرب فاسكنته معي في السرداب الذي كنت قد أستاجرته في الحيرخانة، ولكنني في يوم ما عدت عن طريق الفروع من شارع الرشيد قرب مقهي حسن عجمي الي الغرفة، فقابلت عبد الامير وعبد الله حسن وهما يتأبطان مجموعة من الكتب وتفاجأ وعرفت أن هذه كتبي، وسألتهما الي اين بكتبي ؟، فتلعثما وقالا : نريد ان نكتب بحث وهذه المصادر، فقلت لهما اعيدا الكتب وسوف اعطيكم المال لتشربا، وبعدها قلت له عبد الامير لا فائدة أبحث لك عن مكان، وانأ متأكد انه لو تسلم منصباً أو حصل علي مال كثير لما تورع في تذكر الحاضرين والغائبين، كان لقاء شريف وحداد في سبعينيات القرن الماضي هو أخر لقاء بيننا، إذ سافرت ولما عدت، عرفت انه قد مات، ولم يكن في وداعه في الطب العدلي، إلا ثمانية أصدقاء، وفي وداعه عند القبر في النجف أيضا بضعة أصدقاء . ومنهم سعدي يوسف وعبد المنعم حمندي ورزاق حسن ورياض قاسم وجمعه اللامي ونزار عباس ومنعم حسن وحسن العلوي وخليل الاسدي وياسين النصير وصباح التميمي وجليل حيدر ونايف السامرائي ويوسف نمر ذياب وكان النحات منقذ شريده قد صب قناع لوجهه وقرأ الشاعر الرائع سعدي يوسف قصيدة إمام قبره. إما جواد سليم ذلك الفنان الرائع عاش بنفس البساطة التي عاشها عبد الأمير مع الفارق، إن جواد سليم ابن مدينة بغداد وابن عوائلها الارستقراطية، وعلي الرغم من تمرده في رفض التقوقع داخل الحياة البرجوازية، فكان يركب الدراجة ويلبس البلوز والبنطلون ويحتذي النعال ويجلس مع البسطاء في مقاهي السبع إبكار والكريعات علي ضفاف نهر دجلة، وكان من بساطته إن تعلق به بسطاء الناس وأحبوه، وأحبه طلبته بعيداً عن عيون الحسد والكبرياء والغطرسة الفارغة، كان جواد وعبد الأمير من طين واحد ولكن بلونين ومكانين مختلفين، لكن يجمعهم حبهم للوطن ولامتهم وشعبهم وثقافتهم أكثر من حبهم لأنفسهم وأدرآن الحسد والكبرياء الفارغة، فأنتجوا إعمالا عظيمة كلُ في نسقه.
ما بين شعر عبد الامير الحصيري ونحت جواد سليم..
أن من يقرأ شعر عبد الامير الحصيري وينظر الي لوحات ومنحوتات جواد سليم، سيدرك مباشرة أن هناك قضية مشتركة تجمع هذان الفنانان الرائعان، كما جمعت الكثير من الادباء والفنانين العراقيين في تلك الفترة، في أندماجهم مع نضال أبناء العراق لبناء وطن متطور يفتخر به، لاعتزازهم ببلدهم العريق سليل حضارات ضاربة في القدم، الذي قدم الكثير للبشرية، من هذا الاحساس بعظمة الموروث العراقي كان الهاجس الذي يتمحور حوله اشتغالات الادباء والفنانين العراقيين والمثقفين بشكل عام وجواد سليم وعبد الأمير الحصيري بشكل خاص في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولم تكن قصيدة يا (باسل الحزن )، محض قصيدة شعرية قيلت في مناسبة، أنها تمتلك الروح التي تجدها شاخصة في نصب الحرية وفي أغلب أعمال جواد سليم، أن في أعمالهما قضية مهمة ما بين الذاتي والجمعي، فالشاعر عبد الامير الحصيري ينطلق من الذاتي الي الموضوعي، من الشخصي الي الجمعي، وهو ما نجده مطبوع في أعمال جواد سليم، لهذا نجد شعر الحصيري مشحون بالاسي والتوجع من اجل الانسان والوطن، وعلي ما فات وما يطمح أن يصير، ويتعالق مع تمرده الجواني ضد الواقع من خلال القصيدة، بايجاد الشخوص والموضوعات والرموز التاريخية والوطنية التي يتمثل فيها هذا الحراك الداخلي، والموضوعات التي يتحدث عنها، وسنجد ما يوازيها في بحث الفنان جواد سليم في أعماله، وبالذات نصب الحرية...
يا سليل الشمس،يا موطني المرتدي ثوب الربيع القشب
يا سلسال " فرات " غدق لسوي ثغر العدي لم ينضب
وابن ريا " دجلة " منسكب يا لسجايا الزمان الحدب
وأبن مجد أرج صاغت له " بابل " في الكوي أسمي منصب (1)
1- عبد الامير الحصيري، ديوان مذكرات عروة بن الورد، دار الحرية للطباعة، بغداد. 1973،ص34. والرموز التي استخدمها عبد الامير الحصيري في شعره بشكل وآخر وبالعكس، في تمجيد الانسان العراقي والحضارة العراقية، بتاريخها السومري والبابلي والاشوري، تتوافق مع البحث الذي عمل عليه جواد سليم، وهنا تكمن القضية التي تتوافق في البناء الفني بين المبدعين العراقيين بشكل عام وبين جواد وعبد الامير، أن الشروط الابداعية التي كان يعمل بها الفنان جواد سليم جعلته بتلاصق مع الانسان في حياته، وكان نضاله من اجل الانسان يتلخص في نقل حالة هذا الانسان وواقعه الذي كان يرفضه ويناضل من أجل تغييره نحو الافضل عبر أداته الفن، وفي هذا يقول عباس الصراف، } فالرجل في اغلب منحوتاته، رمز الألم والعذاب والمأساة، فهو مملوك ذليل يسير في ركب،(موكب ملك آشوري1942)، وهو شبح محنط في،(البناء1945)، وهو حيوان ملاصق للثور يحرث الأرض في،(الأنسان والأرض 1950)، وهو آلة عضلية ترفع الاثقال في(العامل 1953)، وهو البليد القانع بزمالة كلب في الريف(1954)،{ (عباس الصراف، جواد سليم، وزارة الاعلام، 1972. بغداد،ص88.) هذه الايحاءات الرمزية التي يذكرها عباس الصراف عن أعمال جواد سليم في فكره ونقلها كموضوعات في اعماله، وكما يقول في موضع آخر في كتابه جواد سليم، (أن موضوعات جواد في الرسم والنحت مدارها الدراما ألأنسانية)، (ص91)، فنجد هذا المنحي الانساني للنضال من اجل الأنسان ومتابعة الماساة التي يعيشها، في جملة اعماله التي صاغها، وهو الصدي الذي يتردد في شعر عبد الامير:
" وأنشُر قلبي رايه
ترتلُ أحلام شعبي
وأعبرُ ليل السجون بجسر السلاسل
أعبر نار رؤي الفاتحين
أنا " عروة الورد " شيخ صعاليك أزمنة الأرض . رمز بطولة هذا الزمان المكلل بالنار .،
رمز الجبابرة الكادحين !! (عبد الامير الحصيري. ديوان مذكرات عروة بن الورد . دار الحرية للطباعة . بغداد 1973.ص98.)
أن أتخاذ الرموز وبناء العلاقة بين الماضي والحاضر، مثلت أغلب اعمال الفنانين والادباء في تلك الفترة، فقد حدثت هذه الانعطافة التاريخية، في بلورة المفاهيم والمنطلقات الفكرية والابداعية، علي النحو الذي يجعل من الماضي والتراث منطلق للحداثة، لا الركون والتوقف علي ما مضي، ومن يقرأ البيان الأول لجماعة الفن الحديث يدرك الفهم الحداثوي للتواصل، (أنهم لا يغفلون عن أرتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي علي الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية مميزة ).
وكذا نجد هذه الروح التواقة لرؤية الوطن والانسان في اعلي مراتبها، وهما وأن يظهرا البؤس والتغني تارة والتوجع تارة أخري، في مناجاة الوطن والانسان، واستحضار التاريخ للتذكر، لانهما كانا يتوقان الي تغيير هذه الصورة الماساوية، فكما نجد هذه الاستحضارات تتلبس أعمال جواد سليم النحتية او الرسوم التي رسمها، ستكون قصائد عبد الامير محمولات لهذه الافكار:
جئت من الآتي..عبرت السنين بيارقاً ينسجهن الحنين
أن تغسل الشمس بأفيائها مياه ينبوع الظلام الحزين
سهرانةُ الأعُين تطفو به كواكباً يرقدً فيها الأنين
يعبرُ شوقَ عالم ٍ لم يَزل في رحم الحرف المشظي..جنين المصدر السابق، ص96. (عبد الامير الحُصَيري. ديوان بيارق الآتين، مطابع دار الجاحظ، بغداد، 1966. ص8)

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الفترة التي عاش فيها جواد سليم وعبد الامير الحصيري لها هذا التاثير في هذا الحراك الفكري، أم هي خاصة بهما ؟ والحقيقة أن النضال من أجل الانسان والعراق الحر المتطور، كان يكتسب البعد الجماعي، ليس علي صعيد الأدباء والفنانين وانما لدي قطاعات كبيرة من أبناء الشعب العراقي، والروح النضالية التي كانت تطغي علي مجمل الشارع العراقي، وكان لأبناء الطبقة الوسطي او البرجوازية الصغيرة، الفعل الديناميكي في تحريك الروح الوطنية، عبر البث الثقافي الذي كانت تمارسه
في مختلف الانشطة الفكرية والفنية. وهي الروح التي صاغت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية في تلك الفترة.
عندما نقرأ قصيدة (ياسل الحزن )، يمتلكنا هذا الاحساس بالفخامة، التي توصلها الرؤية البصرية للتماثيل والنصب الآشورية من فخامة وسمو وابراز للقوة أذا كان في الحجوم بشكل عام، أو في العضلات والقوة الجسدية للمجسدات، وما يظهره (نصب الحرية ) هو ضخامة الكتلة وحركتها الرشيقة، فعندما نبدأ في صدر البيت لقصيدة جواد النحتية، نجده قد جمع الرؤية البصرية بالرؤيا الذهنية، ونحت ليستل من مجامع الحرقة التي تشتعل في قلب كل ثائر هذا التوثب للحديث عن القهر والظلم والتخلف وما آلت له حال الامة والشعب، ليوقفنا عبد الامير علي نفس الرؤيا التي تعتمل في داخله وتتطابق ما ذهب اليه جواد، فشعره صور متلاحقة، وكذا عمل جواد صور مرئية:
ما بالنا نكرم البؤس بصائرنا عن غفلة فنقاسي فقد ما نهبُ
ونستدر جفاف النجم تزكية لمقصد من جرار الصبح ينسكبُ
إذا اتخذنا قبور الريح أوسمة أولد الشمس إن لم يفطن الذهبُ
ولا ستعرنا حديث الرمل تسلية في وحشة الصبر ما دام الأسي يثبُ
مليون عام توارت في تمردها والكون في واحة الاسرار يضطربُ
فلو تعالت جدار لاستراح علي اقدامه الترب، والتآذت به الشهبُ
اللغة التي يتحدث بها تحمل نفس الفخامة التي تتسم بها الكتل النحتية في (نصب الحرية)، اذ تجد خلف السرد الذي يتسلسل في الملحمة هناك فكرة ترسخت وتوضحت في المقطع الاول للنصب، وهو ما نجده في رؤية عبد الامير الحصيري في الابيات التي يصف فيها جواد:
جواد من صفوة فيها ابيح لها مما تشاء من الإلهام تنتهبُ
سبع أقلت مراسيها علي ندم فكل مرفأ علي أثارها تعبُ
تسري ببحر عيون تستفيض علي مياهه المهج الحزني فيصطخبُ