|
عبد القادر البخيت وأحلام اليقظة..
مشاعر ملفوحة بشمس السودان في فضاء اللوحة
مؤيد داود البصام
أقام الفنان السوداني عبد القادر البخيت معرضه الأخير في قاعة الأندي في العاصمة الأردنية عمان التي أقام فيها أكثر من معرض السنين الماضية، والفنان عبد القادر خريج كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم/ جامعة السودان، ويقيم في عمان منذ زمن ليس بالقريب، وقد حصل علي جائزة اليونسكو للدورات الفنية العام 1988.
إيحاءات النشوة...
توحي لوحات الفنان عبد القادر البخيت بمشاعر مباشرة تنتاب المتلقي عندما يقف أمامها، عالم زاخر بمفردات الإحساس انه يعيش أجواء السودان وصخب الحياة في ليالي الأفراح التي تحييها القرية السودانية، حينما يقترن يومها بحدث مفرح، وتسود في أجوائها روح المحبة والمرح والبساطة، عناصر متعددة الأنساق للجمال المتوهج في الحركة والصوت والألوان للإنسان السوداني، الذي يعيش في ارض مترامية الأطراف بين كثافة الغابات والخضرة التي تحجب أشعة الشمس وبين الأراضي الصحراوية الجرداء، البيئة السودانية التي تحمل تنوع في كل مناحي الحياة والتضاريس، إنها روح البيئة السودانية، فيها هذه الصفة البارزة التي تمثل الإنسان العربي السوداني، الطيبة التي تشع من عينيه متجسدة في حركاته وسكناته وعلاقته بالآخر، هذه الانفعالية الوجدانية التي تتسم بها روح الإنسان السوداني تجدها في رؤية بصرية متجسدة في لوحات ورؤي الفنان عبد القادر وهو ينقل علي ظهر اللوحة حياة المدينة والريف وبالأخص الريف السوداني، بأرضه وإنسانه وأطفاله، والتفاصيل الصغيرة المتناثرة في سطح اللوحة.
اللوحة طقسية تعبيرية..
اللوحة عند البخيت فيها طقس لا يخرج منه علي الرغم من تعدد الأنساق التي يشتغل عليها، فهي لوحة تعبيرية في المقام الأول، سطوحها تزخر بالرؤية الجمالية والانفعالية وفيها هذه الحيوية والفاعلية في مجمل الخط واللون والنص، وهو وان اشتغل علي تجريد أشكاله الواقعية، بتسطيح اللوحة من أبعادها الثنائية، إلا انه لم يخرجها من سماتها الواقعية، إذ جمع بين السطح التصويري بانتشار اللون وقوة الخط وبين الحفر الغرافيكي، لإظهار تعدد السطوح ومستوياتها، وإزاء كل الأشكال التي قدمها، إذا كانت لوحة أو تشكيل لكرات وانساق هندسية أخري، إلا أن لوحته ظلت متوازنة في بناءها العام ، وسيطرته علي الكتلة والفراغ ليشحنها بهذه الروح الانفعالية من خلال كثافة اللون وتنوعه، اللوحة عنده سرد بصري، يشكل اللون أهمية في تحريك عناصر بناء اللوحة، لإنتاج هذه التعبيرية الانفعالية، أشكاله مسكونة بهاجس التقاط البراءة في عالم خارج إطار الواقع ومحمولات الدنيوية، ولهذا يشكل اللون الوسيط الدال علي الكتلة والفراغ الذي يحكم الرؤية البصرية لإبعاد اللوحة وتجانس عناصرها، وهو لا ينقل الواقع بدقة تكويناته، وإنما ما يقدمه من تعبير وانفعال في الرؤية البصرية بين اللوحة والمتلقي، وهو وإن استخدم في معرضه الأخير، قري نائية )، الألوان الباردة إلي جانب اشتغاله السابق بكثافة الألوان الحارة، إلا إن ألوانه الحارة ظلت هي السائدة في اللوحة لتعبر عن طبيعة البيئة السودانية، وقدرته علي أن يجعل القيم الجمالية تخضع لحس البيئة المحلية، بصيغ حداثوية في تعامله مع سطح اللوحة، فهو لا يمتنع عن استخدام أنواع مختلفة من المواد وبتقنيات متنوعة علي ظهر اللوحة من خيوط وأوراق وأقمشة تقترب من الكولاج، ولكنها تقنية تحاول إظهار تأثير اندماج العناصر بين النسيج اللوني مع المنمنمات التي تشكل أهميتها كونها جزء من بنائية اللوحة وليس موضعها قسري، محركا ظهر اللوحة عبر تأكيده علي الألوان الحارة، فتكون الإحالات جزء من بناء اللوحة وليس خارج إطارها، ويصبح الكولاج ليس لبناء تشكيل منفصل عن البناء العام لتجسيد رؤية معينة ومحاولة تداخل العناصر مع بعضها، وإنما جزء من طبيعة استخدام الخامات المتعددة في البناء العام وجعله متفاعل كأي عنصر آخر في تقنيات اللوحة.
طقوس وتشفير من خزين الذاكرة...
ظل الإنسان يلاحق الأسطورة كجزء من معتقده بخلق الكون بعض الأحيان، أو للكشف عن كنه الوجود الذي ظل خافيا عليه علي الرغم من التطورات العلمية التي وصل إليها، وظلت أفريقيا بإسرارها التي تختفي في داخل حياتها الملغزة، عطاء ثر للأساطير والسحر والتعاويذ وغرائب القصص عن بيئتها و حيواناتها و إنسانها وطبيعة تضاريسها، وأستغل الرجل الغربي حالة التخلف والجهل في المجتمعات الإفريقية لينهب ثرواتها ويستعمر أرضها ويستعبد إنسانها، وعمل علي ترسيخ الواقع المتخلف، والتجهيل، وإشعال الحروب الداخلية لاستمرار سيطرته واستغلاله للأرض والإنسان، والفنان عبد القادر البخيت ينقل لنا هذه الأشياء عبر رؤية بصرية تختلف عن المفاهيم المغلوطة عن إفريقيا وإنسانها التي نقلها الرجل الرأسمالي الغربي، أنه يحملنا إلي عالم السحر والجمال عبر خطوط وألوان تظهر جمال إفريقيا وإنسانيتها، وليس وحشيتها التي سطرها الرأسمالي من أجل أن يعطي لنفسه الحق فيما يفعل، وإعطانا انطباعا مغايرا يمثل فكره الذي يجعله صاحب فضل في ترويض الوحوش، أن المعاني التي ينطلق منها الفنان تعبر عن البعد الجمالي والإنساني لروح أفريقيا والسودان، وهو في معرضه الأخير بعنوان، (قري نائية )، يحشد في لوحاته ذلك الوهج والجمال في القرية الإفريقية والسودانية بالذات، وفي العنوان تورية، لهذا يلجأ لإدخال عناصر من بيئة ومجتمع القرية السودانية، لإبراز وتأكيد للمعاني التي تدخل في مفردات الحياة، وليست مفاهيم لمعرفة الأشياء، إنثيال للذكريات والمعاني الإنسانية التي يحلق فيها باستخدام مفردات حياتية من صلب حياة القرة السودانية، الطين، نبات الحناء. القرع الذي يشكل أحد الأدوات المهمة في حياة القرية السودانية، كآنية منزلية وآلة موسيقية وحاوية لجمع الحصاد، إنها مفردات لإشارات الارتباط بالرؤية الجمالية المترسخة في الذاكرة، جلود النمور، مفردات لطالما شعرنا بقربها من الروح السودانية، في تتبعنا لوقائع الحياة فيها، إن الفنان عبد القادر البخيت أمينا علي المعاني المتجسدة في لوحاته عبر الذكريات والرؤي الجمالية التي يشتغل عليها كلون أو نص بصيغ تتعامل بحداثة مع ظهر اللوحة، والنص كونه معني وليس مفهوماًً. |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق