الخميس، 13 أكتوبر 2011

ألمشاعر الطفوليه تحرك فرشاة أحمد نعواش



المشاعر الطفولية تحرك فرشاة أحمد نعواش
أنامل غضة ترسم مرح الصغار

مؤيد داود البصام
الفنان أحمد نعواش من أوائل الفنانين الأردنيين الذين اختطوا لأنفسهم طريقا وعرا ليثبتوا وجودهم في الحركة التشكيلية الأردنية والعربية، تميز أسلوبه بالبساطة والعفوية، وقد اتسمت أعماله بالرؤية التي حملها معه منذ طرد من أرضه، فقد ولد في مدينة عين كارم بالقرب من مدينة القدس عام 1934، وغادر موطنه قسرا ً عام 1948، عندما احتل الصهاينة أكثر من نصف فلسطين 56% بقرار الأمم المتحدة الجائر بالتقسيم، وطرد شعب من موطنه وأرضه لصالح مجموعة الفلسطينيين من الديانة اليهودية والمهاجرون الأجانب من بلدان العالم من الديانة اليهودية أيضا ً، والذين يمثلون 17% من مكون الشعب بكامله، في ديار الغربة استطاع أن يحصل علي دبلوم كلية الفنون الجميلة من العاصمة الايطالية روما عام 1964، ثم حصل علي الدبلوم العالي بدرجة امتياز عام 1970، في الحفر علي الحجر( الليثوغراف ) وعلي الزنك من كلية الفنون الجميلة من مدينة بوردو الفرنسية، وعام 1980 علي دورة في ترميم اللوحات الزيتية وترميم السيراميك من مدينة فلورنسا الايطالية. وحصل علي الميدالية الذهبية من المعرض الكويتي السابع عام 1981. ثم جائزة الدولة التقديرية في حقل الفنون الجميلة (الرسم ) عام 1990.
لم يكن الجمهور قبل خمسة عقود، عندما عرض الفنان أحمد نعواش لوحاته التشكيلية في عمان عاصمة المملكة الأردنية، الذي أثار الدهشة والتساؤل، أن يري الكبار ترسم بأنامل ورؤي الصغار، فتداخلت رسومه الطفولية بدهشة صانعها مع دهشة الجمهور، ولم يدرك إلا القليل سر الإبداع الكامن في دخيلة من يتمكن استرجاع الزمن ويعيد صياغته بمفارقة عجيبة، فيظهر الأشكال بمنظور البراءة والدهشة علي أسس جمالية مفعمة بروح الطفولة وأبجدية رؤيتها للعالم، كما هي قدرة من يشد انتباه الأطفال حين يقص أو يكتب لهم قصة، ولعل السؤال المهم الذي ليس من السهل الإجابة عليه حتي من الذين استطاعوا أن يقدموا إبداعهم ويستحوذوا علي إعجاب وانتباه الأطفال، كيف تمكنوا من استرجاع لحظات من الزمن الماضي وبهذا العمق من العقل الباطن، إلي الزمن الحاضر؟ والأكثر كيف كيفوا طبيعتهم وعقليتهم للعودة إلي الطفولة، بإلغاء مستوي الوعي المترسب عبر السنين من المعرفة والتجربة، ليعطوا سر الاكتشاف الطفو لي للأشياء بما تحمله من دهشة وتعجب؟، كدهشة وتعجب الفيلسوف أمام الظواهر، ولعلنا نتذكر جداتنا وروعة قصهم للحكايات وانشدادنا فاغري ألأفواه نتلقف الكلمات المعجونة بالسحر والدهشة، التي تأتينا من أفواههن بلغة بسيطة هادئة سلسة، وأصابعهن مغروزة في فرو رؤوسنا، وهن يقصصن بكل حنان حكاياتهن علينا، بينما نتمرد علي الآخرين عندما يجلسونا ليقصوا أو يتحدثوا إلينا، ولعل مرد هذا إلي أن الإنسان عندما يصل إلي مرحلة من العمر يبدأ في عملية امتلاك قدرة الحلول التي توصله إلي تمثل البساطة والبراءة والطفولة، أو هذا هو السر الإبداعي الذي يتميز به بعضنا عن البعض الآخر، فكم من السنين نحتاج للوصول إلي هذه اللحظة؟، التي استطاع الفنان أحمد نعواش أن يصل إليها منذ شبابه، علي مر الزمن الذي اشتغل عليه وما زال، هذه الرؤيا تحركت ضمن فهم ووعي يخص فلسفته في الحياة والواقع ورؤاه للقيم الجمالية، وهو الوحيد الذي يمكنه الإجابة عن البعد الفلسفي الذي يكمن خلف هذا الإبداع، لأنه لا يرسم أو يكتب للأطفال وإنما للكبار، ومن هنا تأتي المفارقة التي تجعل القضية تتداخل في أعماقها ولا يستطيع أن يفسرها إلا صاحبها، وكما تحدث لنا الفنان الاسباني خوان ميرو، عن أسس فنه الذي يتقارب معه الفنان احمد نعواش في الرؤية والأسلوب وبناء اللوحة، إن خوان ميرو كان عاشقا ً ومحبا ً للفن الشعبي الاسباني، إذ يقول: " كان علي الدوام يسحرني، إذ لا توجد فيه المساحيق التجميلية ولا الخداع والرياء والانفعال المزيف، إنه يتجه مباشرة نحو القلب وبمحبة كبيرة " . وإذا أمعنا النظر في حياة الفنان احمد نعواش علي ضوء حديث خوان ميرو سنجد أن الجاذبية التي تركزت علي البراءة والعفوية في شخصية نعواش، وهذا الحب للبساطة وهدوء الشخصية وجنوحها للصمت والعزلة، وهو نسق ونهج حياة، ومن هنا يمكن المقارنة في تأثر نعواش كما هو قد صرح بإعمال بول كلي، ففيها تطابق أو تشابه بين حياة كلي الصامتة والانعزالية وحبه للأرض والطبيعة، وبين حياة نعواش في علاقته المتشابكة في حميمية الالتصاق بحب الأرض والناس البسطاء، مع الحنين والشوق وسط قساوة الغربة التي حملتها معاناة البعد عن الوطن وذكريات الطفولة.
مرجعياته التقنية...
إذ أردنا البحث عن مكامن المؤثرات في أسلوب وتقنية احمد نعواش فإننا لا نقف عند محطة واحدة، لتوضح لنا أبعاد اشتغالاته، وهو ما تدلنا عليه الصورة الأولي التي وضعنا فيها هذا الخيال الجامح والواسع والشخصي بتفرد، في إطار من الجرأة وإيجاد لغة جديدة ينميها باستخدام ألوان حرة، تكسر القواعد اللونية والخطية، ولعل دراسته الحفر علي الحجر( الليثوغرافي) في كلية الفنون الجميلة في بوردو- فرنسا، قد أثرت بشكل وآخر في تعامله مع اللوحة، فاللوحة في مفهوم الفنان احمد نعواش، مادة لإعادة صياغة الحياة برؤية تستمد من الواقع وتخالفه، فهو يشرحها ويفككها ثم يعيد تكوينها بالصيغة التي تتشكل بها رؤاه الجمالية وما يكمن في تفسيره لحركة الحياة اليومية والواقع، قد يكون الفنان خوان ميرو رمز الأعمال الفنية الطفولية البريئة في الحركة التشكيلية العالمية، وأحد الذين أثروا في أحمد نعواش، كما أثر بول كلي بصورة مباشرة، ليصل من خلال التوافق الذي حكم رؤية الفنان (ميرو) وانعزالية (كلي) للتأمل، وفي حب الناس والطبيعة والإنسان البسيط الخالي من تعقيدات الحضارة وضجيج المدن، والتوق إلي منابع الروح التي تتلبس تهجد نعواش في تمجيد الإنسان الفلسطيني وحياته، ضمن الأفق الذي يرسخ هذا الإخلاص للإنسان والأرض ولكن برؤية حداثوية، فتجريدية نعواش مستلة من الواقع، يتحرك فيها ضمن أفق البناء التكعيبي لكنه يرسخ في نصه الرمزية كنص مع المسحة التعبيرية التي تتجسد في اللوحة، لهذا لا مركزية للوحة نعواش، فالكتل تتوزع عبر فضاء لا محدود، يزج فيها بين اللوحة السريالية والدادائية، فهو يرسم بروح السريالية ولكنه يخرج علي قواعدها التي تلتزم الأسس الأكاديمية في مركزية بناء اللوحة إلي عبثية الدادائية، وهو أسلوب الطفل في تخطيطه علي الورق، الرؤية لديه عامة شاملة، تحيط بكل شئ، وتنظر لما وراء الأشياء، وكما سبق القول ليس هناك مركزية للوحة نعواش، فالرؤية البصرية لا تتحدد بالبؤرة وإنما مساحة اللوحة تحدد شمولية الرؤية البصرية للإحاطة بالنص، فأشكاله البالغة التجريد بلغة سردية تستمد وجودها من الواقع علي الرغم من عدم واقعيتها، أطفال يلعبون الحجلة، صغار يتشابكون ، حيوانات ، خطوط تلتصق ببعضها لتلغي تحديد الشخصيات، العاب شعبية، عائلة متشابكة، أشياء لا معقولة ولكنها واقعية .
تطور المراحل.. خطا ً ولونا ً .
إن الأعمال التي قدمها الفنان احمد نعواش خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تتوافق في إطار بناء اللوحة هندسيا من حيث التشكيل الخطي وبنائها العام، إلا أنها تختلف في تطورها في اللون والخط في العقدين الأخيرين، (ففي صحيفة الرأي الأردنية أوائل عقد السبعينيات من القرن الماضي)، كتبت مقالا ً عن الفنان أحمد نعواش، وناقشت من ضمن الأشياء التي ناقشتها وقت ذاك التقنية اللونية في أعماله المعروضة، فهو وأن صرح كما سبق القول، بأنه متأثر بإعمال بول كلي ألا إننا نجد ذلك الفرق بين ألوان بول كلي الصافية والنقية، وبين إعمال أحمد نعواش في ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، فاغلب اللوحات قد أتسمت بالألوان الضبابية، والخلفيات ألوانها ضبابية وألوانه غير نقية، و تفتقد شفافية الألوان التي تتسم بها رسوم الأطفال وإعمال بول كلي وميرو وكاندنسكي، وهذا يعني الوعي بمدركات العمل الذي يتناقض مع السمة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة لوحته وهي العفوية والدهشة الطفولية، ولكننا عندما نقف علي إعماله اللاحقة في العقدين الأخيرين بنهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، سنجد تطورا ً كبيرا ً في الرؤية البصرية لبناء اللوحة العام من حيث تقنية اللون والخط والتوازن الذي يحكمها، فقد طور أسلوبه نحو بناء سردي للوحة فيها مشاهد وحكايات، تنزاح بالتجريد والمسطحات اللونية الشفافة التي توضح لنا مدي ما وصل له من احترافية في هذا النهج، بمحاولة استعادة لحظات النشوة الطفولية، والغور في العقل الباطن، مما يجعل الرؤية البصرية تتحرك ضمن الفضاء الكلي لتشكيلات الرسوم الخيالية بفنتازيات غير واقعية، متخذا من أحلام وخيال الطفولة البعد الاستلهامي للأشكال والصور الساذجة والبسيطة والفرح الطفولي، وهي في هيامها تنفصل عن كل قوانين الواقع وتفصيلاته، إنه الحلم السريالي الذي يتميز ببساطة ساحرة أو البراءة المنظمة للطفولة، عندما يجمح خيالها بأبعاد يعجز الكبار عن التحليق وإلا يهام، لهذا نجد إن أعماله الأخيرة تتساوق مع الإنشاء الذي استمر علي تقديمه علي مدي هذه العقود بألوان تتصف بالموسيقية والانسجام وبتردد إيقاعي يوضح مدي الإبداع الذي وصل إليه عند اجتماع الخبرة والتقنية، فخطوطه مفعمة بالحياة وفيها تعبيرية عالية، وتهيمن عليها روح البعد الرمزي عبر توزيع الكتل بلا حدود في فضاء اللوحة، مع هذه الفطرية والتبسيطية المدهشة.
الحساسية اللونية وصلابة الخط..
إذا وقفنا للمقارنة بين العقود المتقدمة وبين العقدين الأخيرين إلي أعمال الفنان احمد نعواش، سنخرج من العالم المشوش والمبهم الذي طبع أعماله علي مدار ثلاثة عقود منذ بدايته في ستينيات القرن الماضي، في المساحات اللونية المتداخلة وليونة الخطوط التي لا توضحها إلا الكتل اللونية والتي لا تتضح معالمها في الإنشاء، والتشخيص غير واضح المعالم وتفتقد لوجود الخطوط كحدود توضح التشخيص، إذا كانت علي صعيد البورتريت، (إذا أخذنا بعض الأشكال للوجوه في لوحاته علي اعتبار أنها تمثل بورتريت لشخص ما)، أو الأشكال المكتملة الأجسام كتشخيص، (fuggier ) ، فانه في العقدين الأخيرين ينقلنا إلي عالم جديد ومتغير في رسوماته، إذ توضحن ملامح شخوصه، وتميزها هذه البساطة الساحرة، وإشعاع الالون النقية، والخطوط الواضحة التي تحدد الشخوص، والخلفيات المدروسة لونيا ً علي الرغم من عفويتها، إن أعماله ما بعد الألفية الثانية فيها هذا الصفاء اللوني وقوة الخط وصلابته وتناسق الألوان وانسيابيتها الموسيقية، وتعبيرية الأداء بلغة فنية مختلفة، توحي إلي بعد درامي، يمزج بين الواقع والمخيال، وحركة الشخوص فيها هذه السمة التعبيرية، بألوان وخطوط منسابة بعفوية وبإتقان الصانع لوضع قيما جمالية معاصرة، مع وضوح في مزج غريب للعناصر المتوافقة بين الرسم والنحت، وكأنها اسكيتشات لأعمال نحتية، وتحمل دلائل ومعاني من حياة الناس العاديين، انه يرسم بين عالم اليقظة والحلم، رسومه أساسا ً مبنية علي السخرية من الواقع ولكنه يسردها بجدية، فيها نكهة المرارة والتمرد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق