الجمعة، 25 سبتمبر 2015

مسرحية نارفانا






 سدهارتا والسؤال الفلسفي، مسرحية  نارفانا لحكيم حرب.




                                                
-
                                                                                                 - مؤيد داود البصام

         بقى السؤال الأبدي  الذي بحث عنه الإنسان، ( أين تكمن سعادته ؟(،  وشغل كافة الأنساق في الفنون والآداب والعلوم وفي كل المجالات التي أتيحت له فيها البحث والتقصي للوصول إلى الجواب لقرون عديدة، وظلت الإجابة التي لم يحصل عليها، تحمل تأريخ نضال الإنسان فكرياً وعمليا، فالرجل يبحث عن سعادته في المرأة والمرأة تبحث عن سعادتها في الرجل، العلماء يبحثون عن سعادة الإنسان في إخضاع الطبيعة لإرادتهم ، وبعضهم يرى سعادته في إخضاع ذاته وشهواته للعقل.. وهلم جرا... ولكن كل هذه الأنساق مهما تباعدت واختلفت فإنها تصب في منبع واحد، هو أين تكمن سعادة الإنسان ؟، حاولت الفلسفة أن تجيب عن هذا السؤال عبر عشرات الأسئلة التي انبثقت من السؤال الأول من دون أن تحظى بالإجابة، ورواية الكاتب الألماني هرمان هسه، ( سدهارتا ) واحد من هذه التساؤلات التي طرحها الفلاسفة والمفكرون على مدى قرون، أين تكمن سعادة الإنسان ؟ هذا السؤال وأسئلة أخرى، حملتها رواية ( سدهارتا..) ببعدها الفلسفي وبكل أبعاد الرؤية الفلسفية التي طرحتها، وقد جاء اطلاع كاتبها هرمان هسه على الفلسفة الهندية ومعايشته لروح الفلسفة الهندية عن قرب، وهضمه للحراك الفلسفي في عصره، كونه محسوبا على اليسار الأوروبي المعارض للفاشية والنازية، وذا رؤية وجودية للعلاقة بين الإنسان وذاته، حيث كان وقتها الجدل محتدماً بين فلسفة هيجل التي غزت أوروبا، وبين ظهور نقد المتأثرين بها، مما سمي باليسار الأوروبي، ففي الوقت الذي بنى هيجل فلسفته على أطروحات عقلية صرفة للوجود، كان كيركغارد ينطلق في معارضته من مقولته التي مثلت بداية الفكر الوجودي، الذي سوف يتأثر به الكثيرون ابتداء من مارسيل وسارتر وكامي وآخرون التي يقول فيها، ( الإنسان يختار وجوده، الحقيقة هي موضوع شخصي يعتمد على وجوده الشخصي)، وهو ما تناقشه رواية سدهارتا  سردياً، وتناقش هذا الموقف الذي يعبر عنه سورين كيركارد بالقول، ( عندما تفقد كل الأشياء تكون في قمة المأساة، في هذه الحالة تكون مستعداً للإيمان بالله) ،وكيركارد هنا يتفق مع الفكر والفلسفة البوذية والصوفية، وهو ما حاول هرمان هسه أن ينقله عبر بطله سدهارتا، ولكن يأتي التساؤل، كيف أستطاع مؤلف غربي أن يتماها وينجز تواصلا روحيا متوازيا مع الإعجاب بسحر الشرق، ويتحدث بروحيته، كما حدث مع الروائي الفرنسي اندريه جيد والشاعر الروسي بوشكين، والشاعر الألماني غوته الذي أعطى هرمان هسه دفعة معرفية للغوص في فلسفة الشرق وآخرون ظهروا متأثرين بروح الشرق في الغرب، ولكن تماهي هرمان فيه هذه الروح الشرقية في تساميها وبعدها عن المادي، ومن تتبع حياة هرمان يدلنا (إذا قلنا مجازاً ) على نوع التطابق الروحي بين حياة هرمان هسه، التي ابتدأها منذ بواكيرها بالاستقلال عن العائلة، عندما ترك البيت وبدأ حياته بالعمل بوظائف متعددة، واتخاذه البعد النقدي في رؤيته الفلسفية للواقع، مما أثرت على طبيعة تفكيره تجاه الكون والحياة والواقع، وفي دراسة نشرت في جريدة الدستور الأردنية للناقد الصديق ذو الاتجاهات الفلسفية مجدي ممدوح،  يتساءل فيها حول عدم نقد أدوارد سعيد لهرمان هسه من خلال الآليات التي فكك بها ادوارد الخطاب الامبريالي، إذ يكتب، (هل كان هسه بارعا في تقمصه الروح الشرقية حد التوحد؟ هل كان مخاتلا للحد الذي صرف أنظار سعيد عنه؟ يبدو الأمر كذلك.)، (20 كانون الأول 2011). تبدو قناعة مجدي ممدوح في تقمص هرمان هسه بروح الشرق متوافقة مع من يطالع رواية سدهارتا، ويطلع على أعمال هرمان الروائية، ( ذئب البوادي ولعبة الكرات الزجاجية ) يشعر بهذا النفس الشرقي الذي يتلبس هرمان هسه والروح الصوفية التي تستحوذ عليه، وهذا يذكرني في بداية السبعينيات من القرن الماضي، في تطابق الرؤية، إذ أهداني صديقي الفنان والموسيقي الرائع عبد الحميد حمام مجموعة من أعمال هرمان هسه الروائية، (وما زلت أحتفظ بها في مكتبتي)، كتب في الصفحة الأولى لرواية ذئب البوادي، (وجدتك في ثناياها وأحببت أن تكون عندك.) وهو ما يؤكد انطباع الناقد مجدي ممدوح أنه تقمص روح الشرق، ولم يعانقه اطلاعا ً من فوق.
النص والإعداد لرواية سدهارتا..
          إذا ما نظرنا إلى الإعداد الأولي لمسرحة رواية (سدهارتا) كما أعدها المخرج  حكيم حرب باسم (نيرفانا)، والتي قام بالتغيير والتحوير عملياً وليس سردياً، في كل مرة عرضت على خشبة المسرح، فقد رأيتها أكثر من مرة وفي كل عرض أجد شيئا ً جديدا ً، من خلال نظرة حكيم حرب التجريبية، واتخاذه الأسلوب التعبيري في الإعداد والإخراج، لأننا لو حللنا رواية هرمان هسه فسنجدها تقترب من التعبيرية وتتماها معها،  وهذا يؤشر لنا أن حكيم حرب حاول أن يجعل النص يتوافق مع رؤيته الفلسفية في الحياة، مكونا ً نصا ً يستقي من الأصل ويضيف رؤيته الخاصة، بإنتاج نصا ً مسرحيا ً، يحمل الدلالات والرموز التي أرادها هرمان هسه في روايته، وأضاف عليها حكيم شيئا ًمما يتذوقه كشرقي ليدعم النص بما يريد أن يجعله رؤية مشتركة، فجاءت أشعار المتصوفة الحلاج والشيرازي وابن الفارض وشعر محمود درويش ذات النفس الوجودي التي أضافها على النص، كونها رؤية صوفية تتوحد مع الفكر الوجودي في النظر إلى الواقع وعالم الشخصية الداخلي، مكملة للطابع الشرقي الذي حكم النص، وقد ساعدت رؤية حكيم للمسرح ضمن مفهوم  التجريب أكثر منه للتكريس إلى أبعادها عن الايقونية، من خلال فهمه لما يعنيه المسرح في العصر الحاضر والرؤية الحداثوية في تمثل كل الأنساق دون الوقوف على نسق واحد، فالعالم شئ متجدد لا يمكن اللحاق بما يحدث فيه، ولكن هذا لا يعني أنه خرق الجدار بينه وبين هرمان هسه، فروح هرمان هسه كانت متواجدة في كل العروض، وهذا هو المهم فهو لم يغير وإنما أضاف رؤية معاصرة على رؤية هرمان هسه الشرقية، فقد جعل العرض لوحات متعددة، تكاد أن تكون مستقلة، ولكن يوحدها البطل وهمومه مجسداً جوهر الأشياء دون إظهار خارجها، ليصل في النهاية لتجميع الخطوط، فقد بني العمل على شخصية محورية هي (سدهارتا)، التي تمر بأزمة نفسية وعاطفية، فهو ابن عائلة براهيمية ودرس وتعلم البراهيمية، ولكنه يصل إلى اللحظة التي يجد نفسه مستهلكا ولم يصل إلى شئ، فيتمرد ليبحث عن عالمه في البوذية أو في عالم التصوف على طريقة السامانا، بترك كل الملذات الحسية والعيش بتقشف وزهد، وكذلك يجد أنها لم توصله لما يريد، فيذهب بنفسه للبحث عن وجوده من خلال تجربته الذاتية بمعايشة الواقع والاستمتاع بالملذات الحسية، لكنه يجد أن هذا العالم لم يعطه ما أراد، ليعود إلى النهر من جديد يستقي منه قوة الاندفاع والحركة للتغيير والتبدل، وروح الحياة الدائمة الوجود، وكما ينمي النهر النبات وكل الأحياء فانه يكتشف بابنه الذي خلفه من الراقصة كمالا استمرار للحياة وتدفقها في علاقة الحب بين الأنا والآخر. وهذا هو التمازج بين رؤية هيجل للعالم على  أسس ديالكتيكية، في تغير الأشياء حسب وقتها، كما يتغير الإحساس بماء النهر في كل مرة ننزل إليه، مع رؤية كيركارد بعلاقة التواصل بين الإنسان وذاته، وهو ما يؤشر على الرحلة مابين خارج النفس البشرية وداخلها، إن رحلة هرمان هسه في (سدهارتا) رحلة الروح إلى عالم القيم والأخلاق، ومغادرة عالم الغرب التواق إلى المادة فقط. .  .
الإخراج والتمثيل...
          لم تخرج الرؤية الإخراجية عن روح النص ( الهرماني) وفي كل الإضافات في الحركة والسينوغرافيا، كان هناك تأكيد على إنضاج العرض من دون أن يحدث تغييرا يسقط نصا ً مغايرا ً، فقد حافظ على عملية التواصل الفكرية للغة العرض المسرحي، موجدا حيزا من التواصل بتأكيد أهمية العرض البصري المسرحي، وهذا ما حاول أن يقدمه لنا عبر متابعة والسينوغرافيا في تأثيرها على النص الأدبي، بنقل الحدث إلى داخل قاعة العرض باستخدام جسر ممتد من نهاية قاعة العرض إلى بداية خشبة المسرح، الذي تحرك عليه سدهارتا بالذات للإعلان عن رحلاته أو عودته من رحلاته، محققا تواصل واندماج بين الجمهور وخشبة العرض، إن النزعة التجريبية التي قدمها الإخراج في المزاوجة بين الأساليب والمناهج المتنوعة، فقد دمج المنهج التعبيري الذي صاغ بناء العرض المسرحي عليه، مع الرمزية والتجريدية،  وأستطاع أن يقدم لنا الممثل حكيم حرب الذي مثل دور البطل سدهارتا في أطواره المختلفة،  بحالته النفسية القلقة والروح المتمردة والمترددة المتسمة بذاك الهدوء والطاعة الذي تضفيه عليه كونه من أتباع البراهيمية ، ليشكل مع ممثل دور كوفيندا صديق سدهارتا وتابعه ( كيمو محمد ) هذا الثنائي الذي أبدع في تقديم عرض شائق للتوافق بين السكون والحركة، بين يقينية كوفيندو وشك سدهارتا، ولعل اختيار المخرج للفنان بكر القباني بصوته ذو النبرات المجسمة، أعطى نكهة تعبيرية في خلق عالم روحي تتجسد فيه روح الشرق ورشاقة حركة الرهبان ونظرة التأمل وسكون حركة الرهبان أمام موقف حاسم عندما يتمرد تلميذ على تعاليم أساتذته، مؤكدا على الحركة الكلاسيكية للجسد، وتأثيرها في مثل هذه المواقف التي تتناقض مع استغلاله لفيزياء الجسد عند كوفيندو وكمالا، وكان لتأثير السينوغرافيا التي اعتمدت على إيجاد علاقة بين التبدلات النفسية والفكرية والألوان في الضوء والموسيقى من قوة دفع لتوضيح المشاهد، وأبدعت الموسيقى التي صاغها الفنان عبد الحليم أبو حلتم في تحريك روحية العمل وجعله متناسق ضمن درجات الاحتدام والسكون، واشتغل على التجريد في الديكور أكثر ما أتاحته الإمكانية لتوضيح العلاقات في العرض المسرحي لربط العناصر ببعضها، خصوصا استخدام قطعة القماش التي أعطت حركتها ما يشبه انسيابية النهر وحركة تموجه، وبالعموم فان جميع الذين اشتركوا لم يألوا جهدا في تقديم أفضل ما عندهم، محمود عوض والطفل قيس حكيم، وهو ما نجده في بقية فروع السينوغرفيا لماجد نور الدين وتصميم الأزياء والديكور لهالة شهاب، وفني الصوت خالد الخلايله،

                         




الجمعة، 18 سبتمبر 2015

جاء الخبر مثل وقع الصاعقة، بوفاة الصديق المبدع أياد حامد يوم الاربعاء 16/9/2015. تفجر حزن في القلب، ونشفت الدموع، كنت انظر لك ياصديقي، دأبك وحرصك ورؤيتك ورؤاك، شئ سيكون له شأن في المستقبل، لكن .. انا لله وانا اليه راجعون، ليس بين يدي شيئا الا ان انشر ما كتبته عنك:






.التعبيرية بين الانفعالية وحركة الجسد في أعمال اياد
- مؤيد داود البصام

شكل النحت العراقي قراءات متعددة خلال مسيرته في العصر الحاضر وفترة التأسيس الحديثة، فعمره بمقدار ظهور الأعمال النحتية ذات النهج الواقعي، وبتقنية أكاديمية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ثم عندما بدا خط الشروع للفنان العراقي في تقديم أعماله التي استندت فلسفتها إلى أغلب أعمال الفنان الرافديني لتستقي منه خطابها، ويعد نصب الحرية الانجاز الذي أكد طموح الفنان العراقي لإيجاد معادل موضوعي بين الماضي والحاضر، ومحاولة أيجاد الصيغة التي تجعله يضع فلسفة للربط بين الأصالة والحداثة، حتى لتضيع عليه فرصة ما يحدث من تطورات ومتغيرات في عالم الثقافة عامة والفن خاصة، وأن يبقي جذوره على اتصال بتاريخه وماضيه وحاضره،ولكن هذه المسالة جاءت مع زحمة الإعمال التي خضعت لمنهج التجريب (إذا وضعنا التجريب كمنهج افتراضي ، لان المنهج يفرض قواعد، والتجريب قواعده في داخل العمل المنجز خصوصا وليس عموما) فاتخذت الأجيال ما بعد الرواد الأوائل طريقا يبتعد حينا ويقترب أكثر الأحيان مما بناه الرواد، في أسلوبهم بين الواقعية والواقعية التعبيرية، ويعتبر ما وضعه جواد سليم النموذج في نصبه (نصب الحرية في ساحة التحرير) وإعمال أخرى له ولفنانين آخرين، العمود الفقري للنقلة الشكلية والمضمونية لفن النحت العراقي الحديث، أو الثورة في الشكل والاستمرار بالنظر لأهمية الموضوع في العمل، ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين لمعاينة المنجز من خلال منظور قدرة التجريب لدى الفنانين ما بعد فترة الرواد على تقديم ما يؤسس بما يوازي ما وضعه الأوائل، وأيضا تأثيراتهم على الأجيال اللاحقة، والنحات إياد حامد لا يختلف في التقييم عن ملاحظة ما أوردناه أعلاه في أعماله من حيث الشكل أو المضمون، وهذا لا يعتبر انتقاصا او ثلمة فيما يقدمه من منجز، فهو يمتلك النضج الفني في بناء طريقه لإيجاد ذاته، والانطلاق بفلسفة تجعله، يتقدم ولا يمحو خطواته التي تركها خلفه، بما تحمله من بصمات توضح تأثير أساتذته على أعماله أو تأثيرات المدارس والفنانين في العالم، من دون أن يخضع بنائية أعماله إلى الاستنساخ.
البناء الفكري وروحية العمل 
يعمل النحات إياد على الرؤية المتسقة التي توحد بين الذات والموضوع، والتي تجمع جيله والاجيال التي سبقته في الرؤية لصراع الإنسان مع الحياة، أو صراع الأضداد، من فكرة (أن الشر قوة تفرض وجودها أكثر من قوة الخير)، في عالم يرتكز في بنائيته على مفهوم استغلال الأخ لأخيه والقوي يأكل الضعيف، أن هو أدركها من خلال منابعه الذاتية، أو من خلال أساتذته الذين درس على أيديهم، او الذين درس أساتذته على أيديهم، من أمن وعمل ضمن هذه المفاهيم، وكلهم عمالقة فيما قدموه من منجز على الرغم من قصر الفترة الزمنية في انجازهم الفني، او الفترة الزمنية التي تفصلهم عن نحاتي الزمن الحاضر، فكلهم يخضع للزمن الحديث، فما زال عبق ذكرياتهم لمن رافقهم او زاملهم موجودة على قيد الحياة، مما يعني أن المؤثرات مستمرة، حتى وأن لم تتضح بصورة مباشرة على أعمال الجيل الحالي، وهو ما يدركه إياد، ولا ينكره على الرغم من جهده الذي يعمل عليه لبناء الذات المستقلة، التي تعي أهمية التعبير الذي لازم النحت، كونه جزء من فهم الفنان لطبيعة مجتمعه وانفعاله في المشاركة للواقع الذي يعيش فيه، ومدى تأثير الحدث على العمل الفني، ومن هنا فان الرواد ومن جاء بعدهم، لم ينتزعوا وجودهم من الواقع الذي تقتات رؤاهم عليه، ولم يتخلوا عن اللحاق بركب التطورات التي صاحبت العمل الفني والأدبي والفكري، ولكن كيف يمكن لهذه الإحالات النفسية والفكرية، أن تتحول إلى واقع ملموس عبر جمالية الصورة، نحتا ورسما، واستمرار الارتباط بالجذر، أن أحد اختيارات الارتباط في إعمال النحات إياد، هي المنحوتات التي يغلب عليها طابع المصغرات، فن اللقي (المصغرات)، في الفنون الرافدينية، وهو ما نجده في أعمال فنانين عراقيين آخرين، على سبيل المثال وليس الحصر ولكن لكونه ممن يشتغل عليها بكثافة وبرؤية جمالية فيها توهج الواقع مع الفنتازيا، الفنان محمود العجمي، وكما لدى العجمي هذا المزج بين الواقع والحلم وتضخيم الواقع لابراز قيم جمالية غير مرئية، واتساع ساحة الرؤية في هضمه الفن الرافديني برؤيا معاصرة، وابراز الكثافة التعبيرية التي كان يحررها الفنان الرافديني للتاثير على المشاهد، كذلك نجد في أعمال إياد أعطاء مساحة واسعة للواقعية في إعماله ودمج الرؤية الواقعية بالحلمية، وفسح المجال للرؤية التعبيرية في أن تضخ بكثافة من خلال مضامينه، وهذه المصغرات البرونزية التي قدمها في المعارض التي أشترك مع الآخرين او انفرد بعرضها في معرضه الخاص، هي استمرار للتواصل بمنجز الفنان العراقي القديم، ولهذا نجد أن اللمسة الأكاديمية تأخذ أبعادها في أعماله، بناء على الحرفية التي أكتسبها في مداومته على تنمية الخبرة والصقل، ومن خلال البناء الصحيح لتطوير إمكانياته الأكاديمية .
التأسيس الفني وفلسفة العمل 
أن أعمال النحات إياد يغلب عليها طابع الانفعال، والحركة العنيفة المصاحبة للشخوص (figures)، جدران تقف حائلا ً بين الإنسان وانطلاقته، لكنه يسعي للانفلات منها وكسر القيود التي تكبله،بالحركة الدافعة، أنها الدهشة وكأنها لحظة استفاقة يسعي للخلاص منها، وهنا تأكيد على الجسد وحركة الأجزاء والعضلات، ولأجل أن يجعل المتلقي مستعدا لتقبل الفكرة يترك الجسد عاريا لإبراز حركة العضلة في الجسد وبناءها الأكاديمي، ولتوضيح الأبعاد التعبيرية بين التقنية والخطاب، فهو يبحث في أغلب أعماله، عن مشكلات الإنسان المعاصر، ولإيجاد الصلة الانطباعية بين مدركاته المعرفية وبناءه العملي، يلجأ إلى تحديد السمات، من خلال قربها من الواقع، ويضع الشخص (figure) ضمن أبعاد رياضية، بين المربع والمستطيل، حتى يتيح للفراغ والكتلة حرية صياغة الفضاء الذي يؤطر العمل، أن تعدد الإعمال التي تبرز فيها حركة الجسد المأسور وهو يحاول فك أسر نفسه، تحيلنا إلى مجمل الصراع الذي يكابده الإنسان بمفرده، أمام عالم واسع لايفهم منه الذي يحدث، أن في أعماله حالة الإنسان وكأنه يستفيق من حلم مزعج، فيجد أنه واقع، مما يضعه في لحظة من العزلة والارتباك، و يتوضح هذا في تخطيطا ته التي يمكن التعرف عليها من خلال الشكل الهندسي الذي يتبعه في تخطيط العمل، وكيف يتعامل مع الفكرة لأجل التطبيق ضمن الرؤية التعبيرية، وتبيان القوى الضاغطة التي هي خارج إمكانياته، بين الخطوط المستقيمة الصلدة وبين الإشكال الهندسية، لرصد حالة التعبير بين الوجه وحركة الجسد، عبر التشكيل الرياضي وحصره في المربع والمستطيل عند التنفيذ، وإلغاء بعض الخطوط، محاولة لفهم الكتلة بمقدار تعبيرها من الداخل، وليس شكلها الخارجي، كما في أعمال رودان الذي يتحدث عن تمظهرها، مثالها (تمثال بلزاك) لاشك أن المضامين بشكلها العام التي يشتغل عليها إياد هي في محصلتها النهائية متقاربة في البحث عن مشكلات الإنسان الأساسية، عدم قدرة الفرد على فهم هذه الآلة الجبارة التي تسحقه كل يوم، أينما حل وأرتحل، أنها نفس الفلسفة التي أنطلق منها جياكومتي قبل عدة عقود، بعد أهوال الحرب، في ترقيق شخوصه للوصول إلى حالة الكشف عن المعاناة، المعاناة الداخلية التي تسحق الإنسان من الداخل، وليس له إلا الاستكانة لعدم قدرته على فعل شئ ما، حتي يتحول الكائن البشري إلى شبح انه بحث ضمن الحقيقة وليس في حل مشكلة الحقيقة، كما في أعمال رضا حداد وإسماعيل الترك وآخرين .
الاسم: بنائية الأعمال عند النحات إياد، تستقي مرجعياتها من عدة مراجع بإبعادها المحلية والعالمية، ولكنه يصوغ خطابه عبر محاولته فهم ذاته، ووجودها وكيفية فهمه لهذه الذات والتعبير عنها، من دون أن تنفلت خارج واقعها ولتجد أرضية تقف عليها، أن الطريق طويل أمام شاب مثل النحات إياد حامد، والزاد قليل، لتحديد أبعاد الرؤيا لديه، ولكن هذا ليمنع أن نقول، إذا استمر علي هذا النهج في البحث والاستقصاء، فانه سيصل ويحقق ما يصبو إليه ، إما إذا أخذه الهوس بتحقيق النجاحات الآنية، بعدم الاستمرار في البحث والتقصي، ورفد ما يملكه من خزين معرفي، فسوف يقع في نفس ما وقع فيه الكثيرون، النسخ والإعادة والتكرار.





الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

مسرحية مواطن اسمه ه ...التوه في المحنة.


 
مسرحية مواطن اسمه ه ... التوه في المحنة.
-                      مؤيد داود البصام
       عرضت مسرحية المواطن(ه)، تأليف الكاتب حسين نشوان، في أكثر من عرض على المسارح الأردنية، وقدمت أخيرا في مهرجان( عشيات طقوس المسرحية الثالثة، دورة مؤاب)، من أخراج محمد الضمور، وبنفس الكادر من الممثلين الذين قدموا عروضها السابقة، إلا أن المخرج طور الإبعاد التقنية في مسرحيته في الديكور والسينوغرافيا، مما يعني استفادته من الدراسات النقدية التي ظهرت في الصحف أو إثناء مناقشة العمل في الندوة التي أقيمت على هامش مهرجان المسرح الأردني السابع عشر، وهذه نقطة تسجل له، في اهتمامه بالنقد وما يعني الاهتمام بالرأي الآخر، الذي يعني التطلع للتطور والرقي، والتخلص من الأنا والنرجسية، التي تؤدي بالمبدع إلى الفراغ الفكري والإبداعي.
التأليف والإخراج....
       المسرحية لم تنشر كمطبوع،  مما يعني أننا إزاء عمل لا نعرف فيما أذا قام المخرج بوضع رؤاه في النص أو التزم بما جاء في النص، لكن ما أكده المخرج في النقاش، الذي دار في ندوة مهرجان (عشيات طقوس المسرحية الثالثة)، بان بعض التغييرات في المشاهد فرضت نفسها إثناء العمل، أي أنه ألتزم بالهيكل وتلاعب في الجدران، ووضع رؤيته الى جانب رؤية الكاتب، أو حسب فهمه للنص،  مما يجعلنا نناقش العمل دون إن نعطي رأيا، في البنائية التي اختارها المؤلف، لان المسرحية بشكلها التي عرضت كانت عبارة عن مجموعة مشاهد أو محطات يجمع بينها وحدة الموضوع، ولكنها تصنف بصورة عامة ضمن مسرح الفرجة العربية الساخرة، أقام النص رؤاه على مجموعة حيثيات تخص حياة وواقع المواطن العربي عموما،ولم يخصص، لأنه لم يحدد مكانا لما يحدث وتركه مفتوحا ً ، ولكنه حدد الزمن بان جعله واقعنا اليومي الذي نعيش الآن .
      تستند مسرحية مواطن أسمه ( ه). إلى كشف حال المواطن العربي وبالذات المواطنين من الطبقات الفقيرة، وهم الذين يشكلون الشريحة الأكبر في مجتمعاتنا العربية، وتستل حياة مواطن منذ لحظة الولادة إلى صيرورته، عندما يدرك إبعاد وجوده الكوني، وكيف ينشأ على أسس تربوية خاطئة في البيت والمدرسة والشارع، وكيف يتعرض للاضطهاد والتهميش عندما يكبر وينضج، عندها تبدأ الأسئلة تأخذ طريقها في مجمل تفكيره، واستطاع الكاتب حسين نشوان من جمع معظم القضايا التي تهم المواطن والجماهير العربية وتساؤلاتها التي ليس لها مجيب، من خلال تساؤلات المواطن ( ها ) في حديثه عن حقوقه كمواطن، في حق إبداء الرأي في مصيره، وحقه في انتخاب ممثليه، وعن حقوق الإنسان والشرائع الدولية، وكيف ينظر الجيل الجديد للهزائم التي منيت بها الأمة والمهزومين من هذه الأمة، وعلى رأس هذه الهزائم ما حدث في القضية الفلسطينية، ويسخر من الكذب الذي تمارسه القوى الاستعمارية قي دعواتها، بكذبة الديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، التي تضعها في أفواه البعض لترويج بضاعتها، وهي التي أنشئت وجودها على القتل والدمار والاستغلال والاحتكار، واستعمار الشعوب، وأسست لحكومات تتبنى تكميم الأفواه، وتربية المواطن بعدم التدخل في الشؤون التي  تهم شؤونه الحياتية وحريته، ولكن الكاتب أراد إن يغير الطابع السوداوي الذي ناقشه النص، بان غير تجاه المسرحية بحلم جعل الجيل الجديد يحمل لواء التغيير والحرية، عندما أنطلق  مواطنه والفرقة المسرحية يرددون في نهاية المسرحية، قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش ( أيها المارون بين الكلمات العابرة / أحملوا أسمائكم وانصرفوا / واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا.. الخ)، وهو ما يتوافق مع ما أتخذه المخرج بانتهاج اسلوب الفرجة، وسنأتي على ذلك لاحقا ً .
المعالجة الإخراجية...
       وظف المخرج الرؤيا الإخراجية بروح معاصرة،  ولكنه اتخذ من أسلوب الحك واتي التي جاءت من الفرجة المسرحية العربية القديمة، وكما يعرفها د. أبو الحسن سلام، في دراسته سيميولوجية العرض، ( مفهوم الفرجة: الفرجة من الانفراج، وهي نقيض الكبت ونقيض التأزم، والفرجة هي الخلوص من الشدة )، وهو ما اشتغل عليه المخرج لنص يحمل كل أنواع الأزمات والكبت، فحرك العمل لنقل المشاهدين ( من حالة شعورية إلى حالة شعورية أخرى )، لنقل الفكرة التي خاطب بها المؤلف عبر نصه المتلقي، بنفس عناصر الواقع التي تتماشى وعقلية ورغبات المشاهد، ابتدأت المسرحية لفرقة مسرحية تريد تقديم عملا، فتتفق على اختيار موضوعها حياة مواطن رمزت له بحرف (ها)، رمزا ً لعمومية الفكرة لتتحدث عن حياة عمومية لأي مواطن، ممكن أن يكون في أي مكان، ملغيا بهذا تحديد المكان، وانطلق تمثيل الفرقة بما يشبه حلقات المدائح الصوفية، لكل مشهد حقائقه، وأغانيه ورقصاته، وهي إحدى عناصر الفرجة،  في عملية تتابع للحكايات لتترابط الحلقات المنفصلة على أسلوب التضمين في قصص إلف ليلة وليلة، حكاية تتبع حكاية، وحتى يظهر المخرج مدى الخنوع والإذلال الذي يعيشه المواطن بشكل عام، وظف الطفلة، التي مثلتها ( بتول الضمور) وقدمت عرضا ً بعفوية وقدرة إبداعية، وكأنها مدركة لخطورة دورها، الذي رمز للتلاعب بالإنسان بأيدي الجهلة، وجعل الكنترول علامة على اللعبة الشطرنجية في التحكم بمصائر العباد، يتحركون كدمى بحركة الرمودكونترول، واشغل الحيز الخلفي لما بعد الستارة بحركة الدمى المصاحبة لرقص وغناء الفرقة، وذلك باستحداثه  الجدار الرابع الذي أوجدته الستارة الخلفية، وسمح للممثلين باستخدام الحركات والإيماءات والرموز بالكلمة والحركة، ضمن إيقاع الحس الشعبي الذي يشكل بنائية الفرجة الشعبية، وقد حافظ المخرج في العروض التي قدمها على المسرح الدائري أو على المسرح الرئيسي ذو المساحة الواسعة، على طقس الفرجة أو ما يشبه حلقات الذكر الصوفية، مما جعل بؤرة العمل في الحركة المركزية لوسط المسرح، ولم يشتت حركة ممثليه بالدخول والخروج، ولكونه اشتغل على فكرة الفرجة الشعبية، حافظ  على المنظور المكاني للفرجة، بالرغم من عرضه ضمن مسرح العلبة الايطالية، فقد حاول بحركة الممثلين الدائرية من إيجاد هذا التوازن، الذي يلغي إلى حدا ما، الموقعين بين العرض والمشاهد، من حيث جغرافية المكان، ووصل بعرضه إلى حد ما في المسرح الرئيسي إلى إسقاط الحاجز المكاني، بخلاف عرضه على المسرح الدائري، كان أكثر توافقا ً مع السياق بإحاطة الجمهور للفرقة، مما يحقق احد العناصر المهمة في الفرجة، هو الرؤية البصرية التي يفرضها موقع المتلقي، وهو ما يفرض على الفرقة الحركة الدائرية، لتكون الرؤية البصرية لكافة الإطراف والاتجاهات بنفس الابعاد، وهذا ما جعله يحرك المجاميع في نهاية المسرحية، لإيجاد التلاحم وإيصال الخطاب بين المرسل والرسالة والمرسل له، عندما جعل الممثلون يدخلون القاعة بين الجمهور وهم ينشدون قصيدة محمود درويش، وحقق المواجهة التفاعلية بين المشهد المعروض وجمهوره، وكثف من اللوحات الراقصة والممزوجة بالغناء على إيقاعات تتواشج مع كل فكرة طرحها النص، وظل مسيطرا ً على التوازن العام للكتلة في حركة الممثلين وتقديم المشاهد الراقصة والغنائية، لإيجاد المناخ المشابه للفرجة التي تقام عادة في فضاء مفتوح، ساحة عامة أو باحة بيت واسعة أو حديقة عامة، ومن اجل إبراز فكرة النص بانعدام حقوق المواطن في ظل الحكومات التي تحكمه، كان وجود الطفلة وهي تدير المجاميع في حركتهم وتوقفهم عبر جهاز الكنترول، أثره الواضح في فهم المخرج لإبعاد النص وفهمه للواقع السياسي.
السينوغرافيا وبقية المكملات للعرض المسرحي ..
       من أهم عناصر الفرجة، وجود الفرقة الموسيقية الحية مع المغنين والراقصين، وياتي بعد ذلك بقية العناصر المكملة للفرجة المسرحية، من شموع وبخور وأصوات مصاحبة، وقد حققت معظمها تقريبا ومن أجل استكمال إيصال الخطاب، رسمت خريطة الوطن العربي وفلسطين في وسط خشبة المسرح، وجعل الممثل الرئيسي المواطن ها ، الذي مثله الفنان زيد خليل، يتفاعل مع المعروض، عندما أخذ وضع الانبطاح حاضنا الخريطة، وهكذا جاءت الملابس والاكسسوارات مع الديكور ببساطتهم ما يمثل عروض الفرجة، كما أن الاصوات الغنائية التي قدمها يوسف كيوان وعبد الله كيوان اضفت لمسة أبداعية، افرجت عن حالة الاحتقان للمتلقين وهم امام مآسيهم ، وحلت روح الفرجة من حالة الاحباط الى حالة التفريغ عبر الغناء واللمحه، والنقطة المهمة التي عالجها المخرج في تكييف السينوغرافيا بوجود الجدار الوسطي الذي عزل الدمى وهي ترقص مع الراقصين، في لقطة تعبيرية ، لاشك ان علاقة الفهم والتفاهم بين المخرج والكادر المسرحي وبالاخص ، منفذ الديكور والاكسسوار خليل ابو حلتم، أصل الكثير من الخطاب الذي اشتغل عليه الاخراج لاظهار النص بما قدم عليه،




 
الأبيض إكسسوار الروح... والرقص انتشاؤها

                                                -  مؤيد داود البصام

  أسماء مصطفى.الممثلة والمخرجة .

       تعتبر الفنانة أسماء مصطفى، من الفنانين الذين لهم حضور على خشبة المسرح الأردني، وحازت على عدة جوائز لأدوارها، كان آخرها مسرحية ( صبح ومسا) للمخرج غنام، وهي وان عملت مع الفنان المخرج غنام غنام في أهم مسرحياته ، إلا أن لها شخصيتها المستقلة على صعيد الأداء، وإن أختلط الحلم بينهما فناً وحياتاً، وكانت أولى تجاربها لارتقاء خشبة المسرح مع الفنان العراقي المخرج سليم الجزائري،  في مسرحية ساحر أور، ثم قدمت أعمالاً إلى جانب تمثيلها في مسرحيات متعددة ومتميزة،  ففي عام 2009 أخرجت أول عمل مسرحي للأطفال،  وأخرجت عام 2010 أول مسرحية للكبار، وهي مسرحية (سلَيمى ) ، ولم يقتصر عملها على الإخراج،  بل قامت ببطولة المسرحية، وكتبت نصه الذي ولفته من ثلاثة نصوص،  وهي مسرحية (انتيجونا) لسوفكليس الإغريقي، وكتاب (نسيم الروح) للحلاج، ومن ديوان محمود درويش (حضر الغياب)، وخاصة قصيدة ( لاعب النرد )،  لتخرج بنص مسرحية (سليمى )، وهي موضوعنا .
  النص بتحولاته الثلاثة
       الخ.مسرحية انتيجونا لسوفكليس، مساحة واسعة في عروضها العالمية، وأعاد كتابتها الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت، لتعبر عن وجهة نظره، وقدمت برؤى متعددة، ومثلت في سياق تأويل رؤية المخرج الذي يقدمها، ففي الأرجنتين عرضت لتعبر عن الآلام التي تعانيها الأمهات وثورتهن في ميدان ( دي مايو ) وهن يحملن صور أبنائهن الذين اختفوا على يد الحكومة الأرجنتينية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية، وما قامت به من تعذيب وقتل واختفاء لأولادهن،  وبرزَ العمل نضال النساء الثائرات ضد الظلم والقوانين المتعسفة لقهر الشعب، فالمسرحية بما تحويه من أفكار تحمل الصرخات الإنسانية ضد الظلم بصوت انتيجونا،( ولدت لأحب لا لأبغض )، وهي قابلة لان تقدم هذا التفسير في حالة الثورة والتمرد على القوانين الجائرة، والحاكم الظالم في إي وقت وعصر،  فانتيجونا تحدت السلطات ورفضت إن تذعن لها بعدم دفن جثة أخيها، وضحت وذهبت مختارة للموت لإنقاذ روح أخيها، وقدمت المسرحية على خشبة اغلب المسارح العربية برؤى مختلفة، ومنهم من أخرجها كما هي حسب كلاسيكيات المسرح دون إضافة أو تأويل ومنهم من قدمها بتأويل وإخراج حدا ثوي، أما شهيد التصوف الإسلامي الحلاج، (كما سمته وخلدته الأدبيات)، الذي أكتسب شهرة واسعة لأنه حوكم جوراً ونفذ فيه حكم الموت بصورة بشعة، لموقفه من السلطة الحاكمة بصورتيها المدنية والدينية، فقد عبر في أشعاره أو أقواله، عن الوله في العشق الآلهي، والذوبان  شوقًاً للقاء المطلق، ومجد في أشعاره الحب والتوق لحياة الآخرة، مفضلا إياها على حياة الدنيا الفانية،  واقتبست أقواله من كتاب ( نسيم الريح ) ، وإذا جاء التوليف الثالث من أشعار محمود درويش الشاعر الذي شكل مراحل ومتغيرات متعددة في شعره على مدى عدة عقود من حياته الزاخرة بالعطاء، وروح التمرد التي حكمت شعره على كل ظلم، كان آخرها بما أتسمت أشعاره بالرؤية الفلسفية الوجودية للحياة، ومقارباته المبنية على الالتزام الإنساني للمصير البشري، وتجد في إشعاره إلى جانب الرؤية الفلسفية، لفكرة الحياة والموت والنصر والهزيمة، الإيحاءات والإدخالات  للموروث والتراث الشعبي والأساطير، وحسب رأي كاتبة النص والمخرجة فإنها وضعت رؤاها على أساس وحدة المصير الذي ارتبطت به نظرة الشخصيات الثلاث إلى  قضية الحياة والموت فتقول ( من هنا جاءت التوليفة بين تلك الشخصيات وما يربطها من قواسم في فلسفة الحب والحياة وعشق الموت، والثلاث ذهبوا باختيارهم لقدرهم )، وقد اختارت شخصية (سليمى) لتكون بديلا عن انتيجونا، وتنطق بما قاله الحلاج ودرويش، في ثنائيات إنسانية متعددة، الحياة والموت،  الحب والكره، العدل والظلم...الخ .
       الإخراج       
       اتكأت المخرجة في بناء فضاء العمل على التجريد، في محاولة لإعطاء إبعاد الرؤية الفكرية، لرؤى وفلسفة النصوص التي أخذت منها، وجرها على الواقع الذي نعيشه، ضمن مفهوم ( حياة المرء منذ خروجه من رحم الموت حتى رجوعه إليه مرة أخرى )، تبدأ المسرحية بمشهد بصري، يصور خروج الإنسان من الرحم،  (قبره الابتدائي)، وتنتهي بعودته إلى القبر بعد حياة حافلة بالعذابات والتساؤلات من جدوى الرحلة، تبدأ الحياة بصرخة الطفل خارجا من سجنه وتنتهي بصرخة الوداع، " من الموت إلى الموت " ، وبما أن النص يستند أساساً على نص للمرأة  قوة الحضور، اهتمت المخرجة بمنح المرأة هذا البعد الدلالي، الذي هو ثمرة الثقافة الحداثوية، فعالم المرأة عالم الخيال والسحر والأحاسيس الخفية، عالم تتوق فيه المرأة للتمرد على القيود التي تكبلها، فجاء متوازيا مع توق البشرية للتمرد على قيود الجسد للانطلاق نحو المطلق، فأخذت جسد الممثل التمثيلي لتدمجه بالحركة المليئة بالطاقة، كما تأخذ بها الطرق الصوفية وبالذات الطريقة الملوية، التي تجعل الراقص مركز العالم وكل شيء يدور من حوله، وليس كما نتصوره في دورانه، وكأنه هو الذي يدور حول الأشياء، ففي حركته يعزل الجسد، وتتحرك الروح للاتحاد  مع الكون فلا يعود للجاذبية حكم عليه، وفي هذه الرقصة التي تمثل ألتوق للانعتاق وتحقيق النشوة للوصول إلى المطلق، يمثل الرقص الدينامكية المحركة لهذا الشوق، وقد اعتمدت المخرجة هذا البناء في مسرحيتها، وجعلت الكلمة منفصلة تأتي من البعد المادي للمؤدين، وكأنها تأتي من عالم الروح الخارج عن سلطة الجسد، في محاولة لاستكمال العناصر الرمزية التي حاولت خلقها، فكان لحركة الجسد الفيزيائية أهمية كبيرة في خلق هذه الأجواء، كما أنها استخدمت الديكور المعبر عن الرحلة التجريدية للحياة، بان جعلت كل شيئا بسيطا، وأخذت اللون الأبيض لون الروح بشفافيتها ونقائها، لينسجم مع نشوة  الرقص، استطاعت المخرجة أن تقدم عملا ، تحرك فيه روح التساؤل والفعالية الجمالية، وظلت الأسئلة التي تؤرق الإنسان، هي المحور في العرض . أشترك معها في تقديم العمل، (تأليف موسيقي) مراد وجوزيف دمرجيان، موسيقى عبرت عن الفهم للروح الصوفية لحراك المسرحية، كما نجح محمد الرواشده في التواشك بين إشاعة روح النقاء بالبياض والإضاءة البسيطة ولم يغرق السنوغرافيا في ألوان السبوت لايت، وكان  الغناء بصوت مي حجارة، ومحمد طه إيقاعات مع سليمان الزواهرة، إضافة لمشاركة الفنان ياسر المصري الذي سجل إشعار درويش بصوته، حضور واضح في البناء التعبيري الذي عمل عليه الجهد الإخراجي، مع عموم السنوغرافيا .

وجهة النظر في النص والإخراج
       إذا أخذنا النص بتوليفته بشكل عام، فهو محاولة للربط بين عصور مختلفة ولمجتمعات مختلفة، ولكنهم يشتركون في البحث بنظرة واحدة إلى قضية وجود الإنسان، في مسألة الحياة والموت التي أرقت البشرية ولم يصلوا بها  إلى حل، ولكننا إزاء اختلاف وجهات النظر في توظيف هذه الحقيقة بين كاتب وآخر، فإذا كان سوفكليس وظفها لأجل التضحية والإخلاص والتحدي، والوقوف ضد الظلم، مع صرخة انتيجونا "( ولدت لأحب لا لأبغض )، فان الحلاج نظر لها من زاوية مختلفة، هي انعتاق الروح من الجسد للوصول إلى المطلق، لأنه يرى الدنيا زائلة والآخرة باقية، لهذا فان أفعال الروح محكومة بإمكانية قوة الإرادة والإيمان وإلا وقعنا بالخطيئة إن لم نحسن التصرف، والحب الآلهي والتوحد معه هو الذي يجنبنا الانزلاق، وهذا التوحد يغمر الإنسان بفيض، لا يعود للأشياء المادية مكانا لها قي وجوده، حيث يقول " يانسيم الريح قل للرشا \ لم يزدني الورد إلا عطشا \ لي حبيب حبه وسط الحشا \ لو يشاء يمشي على خدي مشى ". في الوقت الذي تتمثل الرؤية الدرويشية المستقاة من وجهة النظر الفلسفية الوجودية للحياة، الفلسفة التي تمجد وجودية الإنسان الفرد، كونه المكون لمعنى وجوهر حياته، ويملك حريته الفردية في تقرير مصيره، وأكدت على قابلية الإنسان على الثورة، لأنه يعيش أزمة عصره، لوجوده في عالم القهر والاستلاب، ولعدم أمكانية أن يخرج من هذا الانغلاق الذي وضع فيه،  فان الثورة ولدت للرد على هذا القهر، ولتوكيد قدرة الإنسان على مقاومة العدم، وهو ما يوضحه الاستشهاد الذي أخذته من الجدارية لدرويش، " هذا البحر لي \ هذه الهواء لي \ لي جسدي المؤقت \ حاضرا أم غائبا \ متران من التراب يكفياني ألان \ التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله \ يلقي عليهم نظرة ويمر" ،  إذن لدينا ثلاث وجهات نظر لمسالة واحدة، وأن كتب المفكر الراحل عبد الرحمن يدوي، بحثا في البرهان لإثبات إن الوجودية هي شكل من إشكال التصوف، بأنساقها التي ظهرت فيها على أكثر من صعيد ومنطق ومكان، وهو ما حاولت كاتبة النص توليفه ليعطي معناً واحداً، ولكن الرؤية المضببة في هذا التطابق،  لم يتحقق على صعيد النص، ولم يستطع النص أن يوصل لنا ما أرادته كاتبته، في قولها، " الحقيقة الوحيدة هي الموت " ، وهي مسلمة لا يختلف عليها اثنان، ولكن ما تعني في منظورها الآني، هل هي دعوة لاستمرار الثورة ضد الظلم، أم أطروحات الرأسماليين وقادة ما بعد الحداثة، بقلب الأمور وجعل نضال الشعوب والأمم إرهاب، وما تقدمه الدول الإرهابية وقادتها القتلة، هو الديمقراطية والحب والسلام تحت مظلة الرأسمالية، فجاءت العبارات متداخلة متباعدة المنطلق، ولم توضح الاتجاه الذي تصب فيه، وهو ما جعل العرض لا يمنحنا الغ الشكل، وهو ما حاولت المخرجة من سد هذه الثغرة بتكثيف حركة الجسد على العبارة المنطوقة وجعلت العبارة، تحاور الفكرة من خلال الأغنية والصوت الخارجي، ولكن البعد الدلالي للحركة الجسدية، حكمته انطلاقتان رؤية الحلاج الانعتاقية الروحانية، وفكرة الثورة ضد الوقائع الحسية لانتيجونا ودرويش، وعلى الرغم مما بذله الراقصين، حنين العوالي، أسامه المصري ,حنين طوالبه، ريما دعيبس، علاء السمان وعبد الله العلان، ألا إن هناك ضعفا في الانسجام في وحدة الحركة بين المجموعة، التي حاولت المخرجة أن تبرزها كنص يمثل وحدة الحال، أو كحركة لتثبت المعنى التعبيري الذي اشتغلت عليه، فعندما بدأت أغنية سُليمى في الدقيقة تقريبا الثلاثين، عادت الفرقة الراقصة إلى نقطة البداية في حركاتها ولم يتغير إلا حركة الممثلة الرئيسية، فما المعنى التعبيري الذي أراده الإخراج، إن لم يلخص لنا ما توصل إليه في نهاية الثلث الأخير للعمل، لفهم الرموز وتطابق المعاني للنصوص، فما هو المعنى الرمزي إذا عادت بالتعبير إلى نقطة البدء ؟ كما أن الممثلة الرئيسية استحوذت على المسرح وأضعفت الممثل المقابل لها (بلال الرنتيسي ) على الرغم مما بذله من جهد ليجاري الممثلة الرئيسية، فهي قدمت جهدا رائعا، ولكنها أخذت من مساحة زميلها .
الخلاصة
      أن وجهة نظرنا في النص والإخراج، لا تحل محل الجهد الرائع الذي بذل في العمل من قبل الفنانة أسماء مصطفى وجميع العاملين في المسرحية، على صعيد النص أو الإخراج أو التمثيل أو الراقصين وبقية مكملات المسرحية، فالعمل جدير بالملاحظة والاهتمام، لان الفنانة أسماء مصطفى طرقت بابا ليس من السهل الولوج إلى داخله ، فالثلاثة الذين أخذت منهم،  يشكلون رؤى إشكالية على صعيد المعنى والرمز، على مدار قرون وعقود كفلسفة حياة، أو معاني رمزية، لوجود الإنسان وصيرورته، وهي النقطة التي يمكن أن تعطي أكثر من معنى ورمز، ومن الصعب حشرها في أفق ضيق، لان فيها أتساع لا محدود . 


أسماء مصطفى.الممثلة والمخرجة .

الاثنين، 7 سبتمبر 2015

شايش النعيمي ممثل ومؤلف المسرحية


مسرحية الرسالة تحمل أكثر من رسالة
رموز تتحرك بحرية علي الخشبة 



                                                                          -  مؤيد داود البصام

قدم المخرج محمد خير الرفاعي مسرحية ( الرسالة ) من تأليف وتمثيل الفنان شايش النعيمي، علي المسرح الدائري في المركز الثقافي الملكي الأردني، ضمن ( موسم الربيع المسرحي الأول )، وهي من مسرحيات الشخص الواحد ( المنودراما )، إذا لم نضف عازف الموسيقي الفنان محمد البلعاوي، الذي جلس في الزاوية أليسري القصية من المسرح ليعزف موسيقي حية مع إيقاع حركة الممثل، وتمثل الديكور برسم علي الجدار الأمامي المواجه للجمهور، لمجموعة صخور ومعلقة فوقها ملابس جندي، وفي الطرف الآخر المقابل للعازف علي المسرح بئر وجديلة متدلية من السقف في داخل البئر، وثمة كتب وجرائد وأوراق مرمية علي الأرض في مقدمة المسرح، وقنينة شراب ، الديكور أقرب للتجريد منه لواقعية المنهج الذي جاء به النص، لتعميم الفكرة.
اقتصرت الإنارة علي البقع الضوئية التي كانت تلاحق الممثل، أو للإيضاح بالتفريق بين الحالات واللحظات المأزومة للبطل، وبين داخله الذي يفترسه الألم لأنه لم يطبق أو ينفذ وصية والده بالاستشهاد، وبين العالم الخارجي الذي يضغط عليه ويحدد مساراته، في حين استخدم المخرج الإضاءة في مقدمة المسرح في الجزء الثاني من المسرحية عندما يتقدم الممثل إلى إمام خشبة المسرح بمواجهة الجمهور، لإظهار إن الأمور التي كانت مخفية ومضمرة، بانت مكشوفة.

النص
عالج النص الذي كتبه شايش النعيمي وهو الممثل الوحيد في العمل ، مسالة أو محورا ظل نقطة غير مقروءة في السابق بإبعادها الحقيقية، مسألة تضحية ونضال المواطن العربي والأردني بالذات في الصراع العربي الصهيوني، فقد لازمت فكرة النضال بما اختصرت فيه، بسلب الصهاينة لأرض فلسطين، وتركت الإبعاد الأخرى ما وراء قضية الاستيلاء والاستلاب الرأسمالي العالمي، علي ثروات وتراث وتاريخ المنطقة وحضارتها وبناء إنسانها الثقافي والحضاري مهملة أو لم تناقش بصورة جدية، ولهذا انصبت أغلب الإعمال لتتحدث عن جزء من الصراع، ولو كان أهم الأجزاء، وهو احتلال الأراضي الفلسطينية، لوضع موطئ قدم للصهاينة، وبعدها التوسع في فرض الإرادة والهيمنة علي عموم المنطقة، فجاءت معظم النصوص لتتحدث عن ما بعد نهر الأردن حتى تخوم البحر، وفي هذا النص يعالج النعيمي، مسألة غاية في الأهمية، تأخذ بعدين، الأول مشاعر الإنسان العربي إجمالا تجاه القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني، وثانيا: تأثير القضية الفلسطينية وإبعادها المحلية والدولية علي الإنسان العربي والأردني خصوصا، ووجه نظر المواطن الأردني ومشاعره وكيف ينظر إلى الأرض وقدسيتها، وقد نجح المؤلف في معالجة المسالة من دون أن يقع في التقريرية والمباشرة، إذ أعطي بعدها الدرامي بالامتداد التاريخي من خلال معانات الفرد، وهو ما يمنحه مسرح المنودراما، كونه عرضا يمثل مجموعة حوادث ووحدات صورية حياتية ، يشكل فيها المنولوج الداخلي والمناجاة الذاتية، وجه الصراع الداخلي للبطل وآثار الضغوط الخارجية عليه، وقدرته علي الرفض لهذه الضغوط، ويتيح المجال للصعود والهبوط من دون النظر إلى المذهب الارسطوي لتحقيق البداية والذروة والنهاية في البناء الدرامي.
المسرحية قصة جندي يرفض بيع بيته، أو المساومة عليه، والمقصود رمزيا (الوطن)، وهي اللحظة التي يتذكر فيها وصية والده التي ضمنها في رسالة له قبل استشهاده في أرض المعركة في (معركة الكرامة)، ولم يستطع الابن من تنفيذ وصية والده، ليس تخاذلا منه وإنما لان القيادات هي التي فرضت رأيها، منذ لحظة إيقاف إطلاق النار عام 1973 وكان وقتها الابن جنديا في ارض المعركة، يحمل حماس وروح التضحية التي زرعها الأب فيه، وما تبع وقف إطلاق النار من اتفاقيات مع العدو، بزيارة السادات ومؤتمر أسلو والمؤتمرات اللاحقة، وصولا ليومنا الحاضر، وما آل إليه حاله وحال المجتمع، إي أنه يقراها مجددا علي ضوء الإحداث، عام 2010.
انقسم النص إلى جزأين ( تقسيم افتراضي)، الجزء الأول الذي قدم لنا وصية الأب لأبنه، ولماذا لم يتمكن الابن من تنفيذها، وهنا مكمن أزمته التي هي ليس ذنبه، وإنما ما جاءت  إليه من الخارج، لان الحلول جاءت بغير أرادته من القيادات التي فرضت رأيها بالموافقة، وارتضت المساومة، وذهبت تضحيات ونضال وكفاح الأجيال في مهب الريح من اجل مكاسب آنية تحققها هذه القيادات لنفسها وليس لشعبها، وفي الجزء الثاني (الافتراضي)، يروي الابن ما حل به وبالمجتمع بعد الاتفاقيات والحلول الاستسلامية، وينتهي إلى أن الحل الحقيقي هو ما سار عليه الإباء من أجل استرداد الحقوق.

التمثيل وعناصر العرض
استطاع الممثل شايش النعيمي إن يقدم عرضا أخاذا، ملئ فيه ساحة العرض المسرحي، بقدرة الممثل المحترف، إضافة لكون العمل جاء مواكبا لأحاسيسه ومشاعره، كونه مؤلف النص، فاستطاع إن يقول كلمته نصا وحركة، مجسدا الأدوار الأخرى التي يتطلب وجودها، ببراعة وإمكانية ممثل يعرف ما يريد، فكانت الحركة والصوت تجسيدا حقيقيا لمعاناة الإنسان المهشم والضائع بين الأوامر التي تصوغ حياته، من دون إرادته، وبين مشاعره ومدركاته وإيمانه، ونجح في تجسيد مختلف الأدوار التي تطلبها النص للشخصيات الموازية، الفنانة أو الجدة.. الخ، في خفة الحركة والانتقالات السريعة والمباشرة، واحتواء صالة العرض، إضافة إلي التنوع الصوتي وتغير التون حسب متطلبات الدور، أو عند تمثيل الشخصيات الأخرى.
وكان لبساطة الديكور الذي عمق الإيحاء بين قدرات الممثل وصراحة الفكرة، وما جسدته الإضاءة في عمق المسرح، وبساطة الملابس والإكسسوارات، إبعادا إيحائية مع مصاحبة العرض بالموسيقي الحية، التي واكبت حركة الممثل بدقة، ومنحت العرض روحا إيقاعيا يتواصل مع اللحظات المأزومة في حياة البطل، والنهاية التي اوحاها العازف، في نهاية المسرحية عندما ترك الآلة واخذ يتصفح كتابا، دلالة علي عدم الاهتمام، وان ما يحدث لا يمت له بصلة، والإيحاء الرائع الآخر هو جديلة الجدة المتدلية من السماء، في أشارة لتواصل الجذور عبر العمق الدلالي الذي يمثله البئر، وعملية الفصل بين الخلفية في عمق المسرح المتمثلة بملابس الشهيد مع الإيحاءات الدلالية للإنارة، وبين الفوضى للكتب والجرائد المنثورة علي الأرض في مقدمة المسرح التي يمثلها الزمن الحاضر.

الرؤية الإخراجية
استطاع الفنان محمد خير الرفاعي إن يحتوي المسرح ويقدم عملا شد المتفرجين خلال ساعة من الزمن، بالعناصر التي ولفها لخدمة النص في العملية الإخراجية، ببناء معماري استفاد من إمكانيات الممثل، فصب جهده علي الرموز والدلالات التي صاغها بدقة ليمنح النص قدرة الترابط بين الممثل والجمهور، خصوصا إذا عرفنا إن المخرج جمع أكثر من أسلوب في تنفيذ العمل، فقد استفاد من الطريقة البرختية في استغلال الإمكانيات الصوتية والحركية للمثل، وجعله يبدو كحقيقة واقعية وليس تمثيلا، حتى لا يضيع التأثير العقلي للمتفرج، وعمل علي خلق روح المراقبة لما بعد الفعل، وابعد المسرحية عن التسلسل المنطقي، لكسر إيهام المتفرج انه يشاهد عملا خارج وجوده وعقليته، بل مندمجا في الفعل ضمن انعكاسا مماثلا، لهذا جاء توظيف المخرج لفصل المشاهد المسرحية بعضها عن بعض، لتظهر ما يشبه حياة الإنسان في حركته وشعوره ونفسيته، وفي الجزء الأخير دفع بالممثل لكسر البعد الرابع وانزله إلى الجمهور، وجر المسرحية نحو مسرح ارتور (مسرح المضطهدين) أو مسرح الجماهير أو المسرح الثوري، ضمن فهم أن مهمة المسرح ليس الاتكاء علي الواقع وتقديمه كما هو، بل تعريته وتفجير تاريخه وكشف المطمور والمسكوت عنه، وإعلان ما يراد إن لا يرى، مركزا بناءه المعماري علي الإيحاءات التي خلقها في أجزاء بسيطة، ولكنها تمثل أهمية في البناء العام، قدسية النهر والماء والبئر والجديلة للجدة، تقسيم حركة الممثل علي المسرح، العمق للتضحية والاستبسال والرؤية النضالية للإحداث والتاريخ، و حرك الممثل في مقدمة المسرح للإحداث الراهنة والتالية، ولما حل بعد الاستسلام لاتفاقيات الأعداء، وهو ما ركز عليه في الإنارة المسطحة لمقدمة المسرح، بينما استخدم إضاءة السبوت والبقع الضوئية للجزء الأول في عمق المسرح، واحتوي المسرح بحركة الممثل بتوازن عام للوحة، التي هي أصلا كانت متوازنة بوجود البئر والجديلة من الجهة اليمني للمسرح، والعازف علي الجهة أليسري، فكان تحرك الممثل يبقي العرض متوازنا في تشكيله، ولاشك أنه علي الرغم من استعانته بالسينوغرافيا، لتجسيد صورة المعركة بلقطات حية، إلا انه لم يتكأ عليها ليحلها مكان الأداء المسرحي، واستطاع إن يسيطر علي عدم اتساع فكرة الاتكاء على السينوغرافيا كبديل عن الأداء المسرحي ومنح الأداء علي المسرح الأهمية، وهي الفكرة التي دأب محمد خير علي أدائها في أعماله السابقة، إن تجربة الفنان محمد خير الإخراجية في هذا العمل، قدمت بعدا متناميا في قدراته التي سبق أن وضبها لبناء المسرح النقدي، والذي يشكل التعاطف بين الجمهور والممثلين الركن الأساس، وجعل الوعي مهمة في أداء المسرح لجر المتفرج إلى التأمل والتفكير، وان يكون الجمهور جزء من متطلبات العمل المسرحي، حتى تكتمل السلسة بين الإنتاج والتلقي، التي تهمل في إنتاج الإعمال الحداثوية، وفي مسرحية الرسالة التي يرمز العنوان إلى جانبين متلازمين يفسران بعضهما، الأولي: رسالة بأهمية تواصل الأجيال مع بعضها البعض، والثانية: للمجتمع والواقع الذي نعيشه، أن ما بني علي خطأ فهو باطل، قدم الرفاعي عملا يشكل رقما في الإبداع المسرحي العربي والأردني.