الأربعاء، 2 سبتمبر 2015

نادية فليح ... تحمل الوطن بابداعها .

ناديه فليح ..تحمل الوطن بإبداعها
-       مؤيد داود البصام

         الوطن قضية نسبية في داخل الإنسان، والنسب تختلف من إنسان إلى إنسان، واختلافها بمقدار البعد والقرب من البناء الحضاري العام الذي يتسم به الوطن والإنسان نفسه، إن العلاقة الحميمة التي تتطور بين الفرد والوطن كمكان وأشياء، تنبني من خلال مجموعة عناصر وعلاقات ومحمولات، تندمج داخل الفرد لتشكل بالخزين الصوري والذهني مجموع الذكريات ومحمولاتها، الذي يتلبس الشخص ويصعب الهروب مما يتلبسه، ولعل البنية الحضارية لبناء الفرد هي الركن المهم في تحديد هذه العلاقة، التي يضحى من الصعب الفكاك منها، لأننا لا يمكن ان نحاسب رحالة غير مستوطن، على فكرة الوطنية، فالأرض جميعها وطنه لأنها تحمل مجمل ذكرياته التي بناها خلال فترة تنقله وترحاله، وهو ما يفرق بين الوطن المتجسد بهذه الذكريات وكل المعطيات المكانية والزمانية، والأشياء الموجودة في المكان، وبين اللاوجود المحدد للمكان، الذي تفرضه البنية المادية للتطور الحضاري لأي مجتمع إنساني ، وبما أن الفنان جزء مهم من البنية الحضارية لأي جماعة، حتى عندما ندرس فنان ما قبل التاريخ ،( فنان الكهوف والمغار )، فهو كان يعبر بشكل وآخر عن لحظة من التطور الحضاري الذي يفرزه عن الآخرين في الرؤية والتفكير، كانت الصور التي اكتشفت هي البعد الحضاري بمنظور تلك الفترة لتفرد الواحد عن الآخر، إذن هناك ارتباط وعلاقة ووشائج بين التعلق بالوطن بكل أنساقه، وبين الإنسان بمراحل تطوره الحضاري والذهني، مع ما يتداخل في الأساس بمسالة استقرار وجوده على الأرض، وتكريس حياته لإنشاء البنى التحتية التي تربطه بالمكان، وتشكل لديه هذا الخزين من الذكريات والصور المتراكمة، يتساءل غالب هلسا ويجيب على تساؤله في مقدمة كتاب ( جماليات المكان لغاستون باشلار) " ما هو المكان في الصورة الفنية؟ هو المكان الأليف أي بيت الطفولة، إنه المكان الذي ولدنا فيه، ومارسنا أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا " ص7،.. ويفسره لاحقاً غاستون باشلار أيضا، " أحلام اليقظة تضئ ذلك الدمج بين القديم وبين المستعاد من الذكريات، وهذه المنطقة التي تنفتح على تاريخ سحيق يرتبط فيها الخيال بالذاكرة، كل منهما يعمق الآخر، " (1) ولهذا أي تغيير أو تشويه للصورة الجميلة التي نحملها عن المكان، ومقدار وعينا ومعايشتنا له، ستحرك دوافع من الداخل تنتفض لانتهاك قدسية العلاقة، بين الإنسان والمكان، وهو ما يسموه البيت أو الوطن، وعندما أقدم المحتل الأمريكي على تمزيق مدينة بغداد، وجاء بكتل كونكريتية ليشوه صورتها في عيون ناظريها، تحركت الانفعالات التي تحمل دلالات الرفض، وتجسدت بالقصائد والقصص واللوحات التي تظهر بشاعة الجريمة لاعتقال القيم الجمالية للمدينة، وغلق تنفسها الحر،  جاء الرفض بصيغ مختلفة، ليكثف هذه اللحظة الانفعالية ويصدر صريره الخارج من الأعماق، في رفضه لهذا التشويه الذي أحدثه المحتل، بأكاذيبه التي اختلقها في حماية العراقيين من بعضهم البعض، وليمنع القتل البشع الذي جلبه وعصاباته نسخة طبق الأصل لما كانت وما زالت تقوم  به عصابات شيكاغو في أمريكا، مصوراً المسالة وكأنه جاء إلى شعب متوحش خارج نطاق الحضارة والتاريخ، تأكله الأحقاد والضغائن ويترعرع فيه الجهل وحروب البرابرة والبدائيين، وليس إلى بلد وليد عشرات العقود من الحضارة التي قادها رسل الحضارة السومريون والبابليون والآشوريون، والتي اغنوا الحضارات العالمية ومهدوا لتطوراتها الحضارية والتقنية الحالية، بعلومهم وفنونهم التي أبهرت القاصي والداني، ومنها أمريكا التي احتلت البلاد والعباد نفسها.
الصورة وتعبير الرفض
          وإذا استطاعت الفنانة ناديه فليح في معرضها، ( قراءات لحواجز ) ان تقدم لنا الشكل المشوه الذي فرضه الاحتلال على مدينة بغداد، بذائقة جمالية لتجسيد القبح بمنظور جمالي، بما سمته (قراءات لحواجز)، العنوان يعطينا المعنى المقصود، إنها تقرأ ما وراء المنظور، ما حاول القبح  أن يغطيه ويلغيه، فقد وضعت الخيارات بين نقل التشويه بقبحه، كما اشتغل عليه بعض الفنانين في قصص أو أشعار أو لوحات لإبراز مدى الحقد الدفين على العراق وشعبه وبالذات مدينة ألف ليلة وليله بغداد، أو تعطي الصيغة الجمالية للمدينة التي شوهت، وهو الخرق للعلاقة بين الرؤية البصرية المعتادة عليها وبين الرؤية البصرية المستحدثة، وهذا فرق كبير كيف تنتج جمالا من القبح، هذا هو معنى الرفض الذي اشتغلت عليه، لم تأخذ المسألة من منظور الاشتباك بين الفن والسياسة، كما اشتغل عليها بعض الفنانين والأدباء والكتاب، وإنما من منظور العلاقة الجمالية المرسخة في ذهنية الفنان للمكان، وكيف تبقي الرؤية البصرية تحمل قيمها الجمالية وسط الخراب والتدمير، فعندما يتمكن الفنان من انجاز مهام عبوره خط المهارة، ويبدأ خط الإبداع في الاشتغال، بدأت الفنانة ناديه حراكها لإيجاد المعادلة بين التمكن والحداثة، هنا يأتي السؤال كيف استطاعت الفنانة ناديه فليح، الولوج بالخط الإبداعي بعد ان اجتازت التعلم والدربة، وأصبحت ماهرة في تكويناتها الفنية من الناحية الأكاديمية والمناهج الإبداعية الأخرى، لتنتقل إلى حالة جديدة من الوعي في مزج النص مع الشكل، والتأكيد على النص لخلق حالة الإبداع ومظهراته بدون ان تزحزح الشكل إلى خلف النص، فتظهر هذا التأكيد على قوة النص ومتانة الشكل، من خلال مزج مهارتها في فن الكرافيك وفن الرسم مع تقنيات حديثة تستخدمها لاغتناء النص، وذلك باستخدام مواد أخرى، مثل الأسلاك المعدنية والخيوط  والقضبان ومواد أخرى، مع الرسم، هذا البعد الذي اشتغلت عليه، أوصلها لإيجاد صلة بين التخريب الذي مارسه المحتل وبين استخدامها مواد صلبة وبارزة، تحول سطح اللوحة إلى محمول ذهني يشترك في التفاعل معه المتلقي، التخريب بمواجهة المهمل من المواد الذي وضعته في  لوحة يمثل الصراع بين القيمة الجمالية للمكان وبين التشويه الذي أحدثه المحتل، مستخدمة الألوان الباردة الحيادية الرمادي والأبيض مع اللون الحار الأحمر، لإبراز حدية الفعل، ومنح عملها الفني دلالات شكلية تخدم النص وتقوي فاعليته مع المتلقي لتوليد عنصر الدهشة والاستفهام، للوصول إلى حالة التفاعل والاندماج، وقد استطاعت أن تتحرك بالألوان مع هذه الخامات التي تمثل شكل من إشكال الحياة وخرابها، مصورة هذه الجدران كالسجن، مستخدمه قضبان وحبال على ظهر اللوحة لتأكيد النص، بما يسمى، (إحداث الصدمة )، واستمرت في منح لوحتها مساحة الفضاء بالون الرصاصي مع ضربات اللون الأبيض، وفي كل أعمالها التي قدمتها، كان هذا التجانس بين اللون وتقنية المواد الأخرى التي استطاعت بها من تدجين القبح ليظهر جمالية ما وراء التعسف الذي أحدثه المحتل، في جماليات المدينة وذاكرتها..
الهوامش:

1- غاستون باشلار، جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا.كتاب مجلة الأقلام. بغداد.1980.ص43.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق